لا يباع الشعر هنا!

TT

يقال إن رجلا ذهب إلى قرية.. إنه أديب مؤمن بأن الأدب لا يُشبع ولا يَروي.. وسأل الناس: هل يباع هنا الرطب بالحطب؟

فقيل له: لا والله..

فسأل: ولا البلح بالملح ولا العصائد بالقصائد؟!

فقيل له: لا والله..

فسأل: ولا الثرائد بالفرائد.. ولا الدقيق بالكلام الدقيق؟

فكان الجواب: في هذا المكان لا يباع الشعر بشعيرة ولا النثر بنثارة.. ولا القصص بقصاصة.. ولا الرسالة بغسالة.. ولا حكم لقمان بلقمة.. ولا أخبار الملاحم بلحمة!

ولم يجد الرجل حلا لمشكلة الجوع والعطش إلا أن يبيع السيف، فأخذه واحد من الناس وهرب ولم يعد.

وهكذا يترنح العقل بين تأييد للرأي ومعارضة له.. بين الوقوف معه والوقوف ضده.. وأحس كأنني برج بابل أهتز يمينا وشمالا.. فليس العالم أمامي هو الذي يهتز وحده ولكننا جميعا نهتز ولا نتحرك.. كالرادار.. مثل قرون الاستشعار عند الحيوانات والحشرات!

وكثير من المعاني نهتدي إليها أثناء النوم.. أو عندما نصحو من النوم.. ومعنى ذلك أن النوم قد فصل العقل عن المؤثرات الصوتية والضوئية حولنا.. فلما اتسع وقته وطال سكونه.. استخرج المعاني والصور التي غابت عنه عندما كان صاحيا.

إن العالم الرياضي الفرنسي بوانكاريه قد اهتدى إلى إحدى المعادلات الرياضية الصعبة وهو يضع قدمه على سلم الأتوبيس.. لقد عانى هذه المعضلة وتركها وانشغل عنها.. ولكن العقل عكف عليها.. دون وعي منه.. حتى وجد لها حلا.

وأذكر أنني كنت تلميذا في المدرسة الثانوية.. كان مدرس الألعاب الرياضية يخرجني من الطابور ويقول لي: اخرج أنت يا ابني.. الله يفتح عليك.. اقرأ لك كتابا.. أما هؤلاء فهم طلبة فاشلون!

ولم يكن المدرس يدري أنه يحقق لي أغلى وأعز أمنياتي.. ألا أقوم بأي نشاط رياضي.. أو اجتماعي.. وأن أنزوي وأنطوي وأقفل نفسي على نفسي وأسرح في لا شيء!

وكنت أحتفظ في جيبي وإلى جوار فراشي بنوتة صغيرة وقلم.. فكثير من الأفكار مثل الطيور المهاجرة.. تحط على رأسي.. ولذلك لا بد أن أسجلها بسرعة..

كأن رأسي جهاز استقبال مفتوح دائما.. وهو يلتقط كل الأصوات على كل الموجات.. ولا أعرف أين مصدر هذه الأصوات.. ولا كيف جاءت.. ولذلك فإنني أبادر بتسجيلها بسرعة.