من أين أتى بها العقل؟!

TT

كما يحدث في أبراج المراقبة في المطارات أن تسجل الطائرات القريبة والبعيدة وتحدد لها اتجاهها وسرعتها وارتفاعها.. وترسم لها طريق الهبوط.. فكذلك أنا أقف حكما بين أفكار متباعدة ومتقاربة وهابطة على مهلها وهابطة اضطرارا.. ولا أعرف إن كانت الطائرات تخرج من رأسي أو تأوي إليه.

والعقل الإنساني يستدعي الأحداث البعيدة لأسباب لا أعرفها بوضوح.. ولكن لا بد أن يكون هناك سبب.. فالعقل الإنساني ليس مثل الحاسب الإلكتروني.. لأن الحاسب الإلكتروني يعطيك الذي أودعته فيه.. إنه مثل البنك تسحب منه ما أودعت مع فارق واحد أن البنك قد يضيف إليك أرباحا.. أما الحاسب فهو يعطي بسرعة هائلة ما أودعته.. أما العقل الإنساني فهو يعطي ويضيف ويبدع.. ويعطيك ما لم تكن تعرف.. وما لم تكن تفكر فيه!

أذكر أنني كنت في جزر هاواي وتذكرت زجلا على إمساكية شهر رمضان في بلدة أبو حمص في محافظة البحيرة.. كنت في هاواي سنة 1959 وكنت في أبو حمص قبلها بخمسة وعشرين عاما.. ولا وجه للشبه بين الجمال والروعة التي بهرتني في جزر هاواي.. وفوانيس رمضان في بلدة أبو حمص.

وعلى أثر هذا الحوار وما أثاره في داخلي من موجات وتيارات وتراجعات تذكرت أبياتا حفظتها منذ كنت طفلا.. ولا أعرف من الذي نظمها ولكن لا أستبعد أن تكون قد جاءت في مقامات الحريري تقول الأبيات:

لا تقعدن على ضر ومسغبة

لكي يقال عزيز النفس مصطبر

وانظر بعينيك هل أرض معطلة

من النبات كأرض حفها الشجر

وربما كان المعنى الذي تداعى مع الموقف هو ألا ييأس الإنسان.. أي إن الذي قاله ماسح الأحذية يدل على يأسه وعلى ضيقه أو على خوفه علينا.. وكأنني عندما تذكرت هذه الأبيات تذكرت نوعا من المقاومة لهذا المعنى ودعوة لشحذ الهمم والأمل والتفاؤل.

وكان هذا المعنى عميقا في داخلي فتذكرت أبياتا كان ينشدها والدي وأعتقد أنها من مقامات الحريري أيضا وكان والدي أديبا.. ويقول:

يقولون إن جمال الفتى وزينته أدب راسخ

فأما الفقير فخير له من الأدب القُرص والكامخ

وأي جمال له أن يقال أديب يعلم أو ناسخ!