العراق: لحظة ما بعد الرحيل

TT

بعد شهور طويلة من الجدل والغموض، جاء اتفاق الكتل السياسية على إعلانها الأخير بصدد وجود القوات الأميركية في العراق ليصوغ بعض معالم المرحلة القادمة. القرار جاء على خلفية الضغط الأميركي لمعرفة ما إذا كان العراق راغبا في التمديد لبعض القوات بعد نهاية فترة نفاذ الاتفاقية الأمنية الراهنة مع نهاية هذا العام. الأميركيون الذي أرسلوا في البداية عدة رسائل توحي بالرغبة في الإبقاء على ما بين 20 - 30 ألف جندي، تراجعوا عن هذا الموقف في الأسابيع الأخيرة مع تصاعد الحديث بدلا من ذلك عن مدربين أميركيين لتدريب الجيش العراقي على استخدام أسلحة أميركية، وعن قوة مسلحة ضخمة لحماية السفارة الأميركية. من الواضح أن تراجعهم كان مرتبطا أيضا بإيحاءات عراقية غير راغبة للتمديد لعدد كبير من الجنود، وضغط قوي من التيارات الرافضة لأي وجود أميركي في العراق بعد 2011، لا سيما موقف التيار الصدري.

باستثناء التحالف الكردستاني، لم يبد أي طرف آخر موقفا معلنا وصريحا لصالح تمديد القوات، ولذلك بات من الحتمي الاقتصار في النقاش على المدربين والحماية. الحاجة الأميركية للاستعجال باتخاذ قرار مردها دوافع لوجستية وقانونية، حيث يريد الأميركيون وضع إطار محدد للمغادرة مع تحديد مبكر لعدد القوات التي ستبقى، وأيضا وجود غطاء قانوني يتلاءم مع الموقف الأميركي المعتمد في كل مناطق الانتشار العسكري يمنح الجنود الأميركيين حصانة قانونية. القرار الذي أعلن عنه اجتماع الكتل السياسية يقضي بضرورة الالتزام بتنفيذ الاتفاقية الأمنية (مما يعني انسحاب القوات الأميركية بنهاية العام) وبالاستعانة بمدربين عسكريين أميركيين شرط أن لا يحظوا بأي حصانة قانونية وأن يخضعوا للقانون العراقي. كانت تلك تسوية استهدفت تطمين ضغوط القوى المطالبة بالانسحاب، وبنفس الوقت الإبقاء على نوع من التعاون العسكري العراقي - الأميركي لا سيما مع عقد الحكومة العراقية صفقة كبيرة لشراء طائرات عسكرية من الولايات المتحدة وما يعنيه ذلك من الحاجة لوجود مدربين أميركيين للتدريب على كيفية استخدامها. هذه الصفقة كانت ضرورية أيضا لعدم امتلاك العراق لأي أسطول جوي بعد التدمير الذي لحق القوة الجوية عامي 1991 و2003 وقد كانت الطائرات الأميركية هي التي توفر الغطاء الجوي للعراق وتقوم بطلعات جوية يومية لمراقبة تلك الأجواء.

مع ذلك فشرط عدم توفير الحصانة يعني استحالة عمل المدربين لأن الأميركيين سيصرون في أي حال على التمتع بمثل هذه الحصانة، ومؤخرا هنالك اقتراح لترتيب يقضي بالاتفاق مع الناتو، والولايات المتحدة هي أهم أضلاعه، على القيام بتلك المهمة بما يقود منطقيا إلى تطبيق الإجراءات التي تخضع لها القوات الأميركية في إطار الناتو، لكن ليس واضحا بعد طبيعة التسوية النهائية لملف المدربين، وعلى الأغلب فإن ترتيبا خاصا معينا سيتم اعتماده بما يوفر الحصانة لهم دون أن يغضب القوى الرافضة للوجود الأميركي، وقد يكون ثمن الترتيب هو الإبقاء على عدد محدود جدا منهم.

المهم في هذا المفصل هو النظر في الاحتمالات السياسية الناتجة عن الانسحاب وفي الكيفية التي ستجري عليها الأمور في عراق ما بعد الانسحاب. أكبر مخاطر ما بعد الانسحاب هو في الضعف العراقي العسكري مقارنة بقوى عسكرية مجاورة كبرى كإيران وتركيا لها سوابق في التغلغل الناري أو العسكري عبر الحدود العراقية، لا سيما إن لم يتم التعويض عن الانسحاب برقابة محكمة للأجواء العراقية والحدود. سياسيا فإن الغياب العسكري الأميركي سيترجم من بعض الأطراف الخارجية والداخلية بوصفه غيابا سياسيا، مما قد يدفع إلى السطح مشكلات كان ذلك الوجود قد فرض عليها مستوى من الاحتواء ومنع التفجر. من بينها مشكلة الأراضي المتنازع عليها بين حكومة إقليم كردستان من جانب وحكومة المركز وبعض المحافظات من جانب آخر. غياب أي طرف ثالث قادر على توفير الضمانات قد يدفع البعض إلى محاولة تغيير الوضع على الأرض بالقوة مما قد يخلق صراعا متفاقما. وربما قد يندفع طرف إقليمي للتدخل بهذا الشأن وهو ما قد ينتج صراعا أعقد بسبب حساسية الداخل العراقي من الأدوار الإقليمية المختلفة.

البعض يحذر من أن الغياب الأميركي قد يدفع الفرقاء السياسيين إلى تصعيد صراعاتهم وتجاوز سقوفها السابقة مما قد يهدد استمرارية العملية السياسية ومعها السلام الاجتماعي الهش، خصوصا إذا ما قررت بعض القوى الاستعانة بأذرعها الحزبية أو الميليشيوية العسكرية في صراع القوة. إن عودة محتملة للميليشيات ستشكل الخطر الأكبر على عملية بناء الدولة المتعثرة أصلا وستنتج قواعد للعبة أكثر خطورة من قبل.

على الجانب الآخر، هنالك من يرى أن التحدي الأمني الأكبر الذي يواجهه العراق اليوم لا يأتي من احتمال احتلال عسكري أجنبي بل من تسلل جماعات مسلحة وأسلحة عبر الحدود، وهو يقوم على شكل من أشكال حرب العصابات التي لم تنجح القوات الأميركية في التعامل معها أو الحد منها. يرى هؤلاء أن وجود تلك القوات هو مصدر أكبر لعدم الاستقرار بفعل ما يضفيه من شرعية على بعض الجماعات التي تتبنى فكر المقاومة وما يستدرجه من تدخلات لأنظمة إقليمية تريد محاربة الأميركيين في العراق. وقد يؤدي الانسحاب الشامل إلى رفع الشرعية عن تلك الأجندات والحد من التدخلات الخارجية. وسياسيا قد يرى البعض أن الخروج الأميركي وفق بنود اتفاقية أمنية وقعها الطرفان قد يخدم علاقات الطرفين أكثر مما يضرها من حيث إظهاره التزامهما بالتعهدات الموقعة وبإقامة شكل بديل من العلاقة يسحب عن الدور الأميركي صفة الاحتلال التي كانت أحد أهم أسباب الشك فيه. وهو بالمقابل سيخفف الضغط على الحكومة العراقية الواقعة بين مطرقة هذا الوجود وسندان القوى الرافضة، ويدفع القوى السياسية لمواجهة الواقع الجديد برؤية أكثر نضوجا لا تقوم على الاتكالية أو الشكوى للطرف الأميركي، وبالتالي التوقف عن تأجيل المشكلات أو التأجيج السياسي لصالح الوصول لتسويات تنقذ جميع الأطراف من الغرق الناتج عن سياسات التصعيد.

إدارة أوباما لم تظهر ذات الحماس الذي أظهرته إدارة بوش للملف العراقي، ويمكن القول إنها افتقرت لرؤية استراتيجية واضحة حول كيفية التعامل مع العراق، واليوم وهي بمواجهة نقاط تفجر متعددة في الشرق الأوسط قد ترغب بانغماس أقل في العراق، ولكن برؤية أفضل للشراكة معه تنهي ما قد يعتبره البعض «حقبة احتلال».

تلك النهاية مهما بدت رمزية، قد تسهم بخلق عراق أكثر تصالحا مع نفسه، وعلاقات عراقية - أميركية أكثر تحررا من أعباء الماضي. لكنها بالطبع قابلة للتحول إلى كابوس كبير إن كان الرحيل الأميركي سيقترن بقدوم صراعات أشد حدة لا سقف يكبحها.