يا ليتهم لم يتداركوه

TT

هو رجل كالح شبه فالح، كان بيني وبينه معرفة وشبه قرابة بعيدة، وسبق أن مضى له خمس عشرة سنة من دون انقطاع في أميركا، ثم عاد أخيرا بخفي حنين، وصادفته في مناسبة اجتماعية، وما إن شاهدني حتى أخذني بيده المعروقة وانتحى بي جانبا، وأحسست منذ البداية أنني اختطفت، والغريب أنني استسلمت له كأي بهيمة أنعام غبية، وانطلق الرجل يكيل الاتهامات والشتائم والانتقادات لكل أبناء الخليج عموما، وكيف أنهم أناس اتكاليون، لا يعرف الواحد منهم أن يقوم بشؤون بيته، ولا يستطيع أن يغير حتى (لمبة) محروقة، أو (حنفية) مسدودة.

ومشكلتي التي لا أفتر من الاعتراف بها: أنني - حرسني الله - إنسان سريع التصديق على نياتي، وسريع الانخداع إلى درجة الغفلة، فوافقته على كلامه سريعا وأنا مغمض، وأذكر أن فمي وقتها كان مفتوحا من شدة الإعجاب والاقتناع والهبل.

وفي اليوم الثاني قررت أن أشمر عن أكمامي وأنا أردد: (أفا عليك يا بو المشاعل) كيف لا تكون قدوة؟! وبدأت أتفحص مواقع العطب في بيتي كي أصلحها بيدي لا بيد عمرو، وأول ما بدأت به هو برميل السخان المهترئ المعلق بسقف الحمام، وأتيت بالسلم وارتقيت درجاته، وبدأت بإزاحة بلاطات (الأرمسترونغ) ثم استدنيت سلاحي المتمثل بالمفتاح والشاكوش والزرادية، وأخذت أفك صنبور المياه لكي أعزله من السخان ثم أنزله لتحت لكي أكتشف خرابه، وما إن فعلت ذلك حتى انهمر فجأة على رأسي طوفان من المياه الساخنة التي كادت أن تسلخ جلدي، على الرغم من أنني كنت وقتها لابسا البيجامة وفوقها (الروب دي شامبر)، فأخذت أصرخ، ومن شدة صرختي أختل توازني وسقطت تلقائيا على البلاط الذي كاد أن يدشدش عظامي، والحمد لله أن باب الحمام كان مغلقا، لهذا لم يسمع أهل بيتي صرختي وسقوطي ليشمتوا بي كعادتهم، وقفت على حيلي متحسسا رأسي وأنا أنظر للمرآة، ووجدته كحبة الفلفل الحمراء الكبيرة التي لا ينقصها غير الحشو، وخلعت الروب ثم قميص البيجامة وأتبعتها بالفانيلة، وراعني أن أكتافي مع صدري وبطني كلها مسلوخة أو محروقة من الدرجة الثالثة على ما يبدو، المهم أنني عدت مرة ثانية لارتداء ملابسي وتنظيف أرضية الحمام من المياه الساخنة، وطوال ذلك الوقت استمررت أكثر من نصف ساعة كاملة ولم تكن هناك شتيمة أو لعنة لم تتوال على لساني الزفر التي تحبها قلوبكم، سواء ضد ذلك الرجل، أو ضد نصائحه، أو ضدي أنا، أو ضد الأمة العربية، أو ضد مجلس الأمن، أو ضد حقوق الإنسان.

وبعد أن تأكدت من استتباب الأمن في الحمام خرجت مثلما ولدتني أمي مجللا بالعار والفشيلة.

والغريب أنه قبل أيام قرأت (بالنت) موضوعا عنوانه: (احترس من منزلك)، ومن ضمن ما جاء فيه: أن أكثر الحوادث أو (الميتات) تحصل للناس في منازلهم، سواء في المطابخ التي تزدحم بالمواقد الكهربائية، والشاويات، وأجهزة غسل الصحون، أو خلط الأطعمة، أو فتاحات العلب، أو آلات سن السكاكين، وأن الملايين في أنحاء العالم يذهبون سنويا ضحية لمثل هذه الأمور الصغيرة التي يستسهلونها.

لهذا تذكرت أحدهم - الله لا يمسيه بالخير- كان مدمنا على تعاطي السجائر حتى في غرفة نومه، وكثيرا ما حذرته من هذه العادة، وقبل عام كاد أن يكون رمادا لسجائره، وذلك عندما عاد إلى منزله في ليل متأخر، فراق له أن يشفط عدة سجائر قبل أن يخلد للنوم، ويبدو أنه من شدة انشكاحه نام مغشيا عليه دون أن يطفئ السيجارة الأخيرة، وتداركوه في اللحظة الأخيرة، ويا ليتهم تركوه ولم يتداركوه.

[email protected]