«الفيتو» الروسي الصيني لا يغطي على حقيقة الموقف الإسرائيلي

TT

«دعوني أعطكم تعريفا للأخلاق: جيد أن تحفظ حياة الناس وتعزّزها، وسيئ أن تقضي على حياتهم أو تؤذيها».

(ألبرت شفايتزر)

قد يكون من قبيل المبالغة تحميل «الفيتو» الروسي الصيني المزدوج، المسؤولية المباشرة في جريمة اغتيال الناشط السوري الكردي، مشعل تمو، لكن من العبث تجاهل ما فعله ذلك «الفيتو» على صعيد إراحة النظام السوري من أي رادع يحول دون ممارسته «الحِرفة» التي يتقنها أكثر من أي شيء آخر.

الكلام هنا ليس عن السياسة الأخلاقية، فالعلاقة بين الأخلاق والسياسة لم تقُم في يوم من الأيام، ولا هي بصدد أن تقوم. وتكفي، على سبيل المثال ليس إلا، وإن لم تخنّي الذاكرة، الإشارة إلى يوم قرر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير - ما غيره - اعتماد سياسة خارجية أخلاقية. تأملوا توني بلير.. وسياسة خارجية أخلاقية!؟

بالأمس، عندما رفع المندوبان الروسي والصيني ذراعيهما بلا خجل معلنين «الفيتو» المزدوج لمنع إدانة مجازر نظام دمشق ضد الشعب السوري، قالت المندوبة الأميركية سوزان رايس بحدة ما معناه أن «اليوم عرف العالم العربي مَن هو الصديق ومَن هو العدو».

غير أن رايس نسيت، أو تناست، كيف هددت إدارتها الأميركية، التي تدعي التزامها بالأخلاق وحقوق الإنسان، كما تدعي صداقة العرب، بـ«الفيتو» ضد إعلان «دولة فلسطينية» هي في الظروف الحالية، وضمن المعطيات المتوافرة، مجرد «دويلة» مقطعة الأوصال ومنزوعة السلاح.

إبان الحرب الباردة، كان مناصرو الاتحاد السوفياتي مقتنعين بأن «الرفاق» في الكرملين لا ينامون الليل؛ لفرط تفكيرهم بوسائل تحرير شعوب الأرض، وترويج الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، كذلك كان محبو واشنطن على قناعة لا تشوبها شائبة بأن هاجس «العم سام» الأبدي السرمدي، هو زرع رايات الحرية خفاقة على امتداد المعمور.

غير أن الاتحاد السوفياتي السابق، على الرغم من نياته الطيبة في موضوع العدالة الاجتماعية، كان يستخف بحرية الفرد، بل ويقمعه إزاء ما يراه «مصلحة الجماعة»، كذلك كان يدرك أنه في نهاية الأمر دولة لها مصالح، ويخوض صراعا عالميا ضد قطب منافس وقوي.

وفي المقابل، لم تكن الولايات المتحدة، على الرغم من إيمانها غير المنكور بأهمية الحرية، تجد غضاضة في تشجيع نشوء طُغَم ديكتاتورية عميلة لها في كل مكان، وبالأخص في أميركا اللاتينية، لدرء خطر ما كانت واشنطن تراه «تمددا» شيوعيا يستهدفها.

بعد عام 1989، انتهى الاتحاد السوفياتي. ونظريا، مع نشوء روسيا الاتحادية، «الدولة القومية» البديلة.. لا الدولة الأممية ولا المشروع الأممي، سقط مبرر سكوت موسكو على الأنظمة التسلطية باسم دعم الاشتراكية والتصدي للإمبريالية. وفي المقابل، كنتيجة مباشرة لانهيار خطر «التمدد الأحمر»، ونظريا أيضا، ما عاد بمقدور الولايات المتحدة مواصلة إيجاد الذرائع لتأجيل استحقاقات الديمقراطية والتغاضي عن قمع حقوق الإنسان.

غير أن ما يكتشفه العرب اليوم، في الملفين السوري والفلسطيني، بالذات، أن ادعاء المبادئ النبيلة شيء والتعامل مع صراع النفوذ وتقاسم مواقعه شيء آخر. كما يكتشفون أنه على الرغم من تبدل الآيديولوجيات تبقى مصالح الكبار هي هي.. ومعاناة الصغار هي هي.

الواقع أنه عندما تقف موسكو وبكين اليوم مع «شبيحة» الحكم في دمشق ضد المواطن السوري الأعزل، فإنهما تتصرفان ككيانات قومية لها حسابات خاصة مع خصم عالمي لا يتنازل طائعا عن موطئ قدم. وفي حالة روسيا، تحديدا، لم يحُل تسليم موسكو بقيادة واشنطن العالمية دون إصرار الأخيرة على مد نفوذها ليشمل أوكرانيا وجمهوريات البلطيق وبعض دول القوقاز ومعظم آسيا الوسطى «السوفياتية سابقا». ثم إن مسألة «الإسلام السياسي»، الذي جعل منه الحكم السوري «فزاعة» للرأي العام العالمي، مسألة تتعامل معها كل من موسكو وبكين بجدية واهتمام كبيرين، إذ إن روسيا تقاومه بضراوة في القوقاز، والصين تواجهه بتشدد شرس في سنكيانغ. وإذا كانت المسألة مسألة «حقوق إنسان»، فلا روسيا ولا الصين – وهنا بشهادة التيبتيين - من الدول المتيمة بهذا الموضوع.

في المقابل، نجد أن علاقات واشنطن علاقات هشة وإشكالية مع عدد لا بأس به من دول «العالم الثالث» - بما فيها الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وكلها اليوم دول أعضاء في مجلس الأمن، بل تطمح إلى مقاعد دائمة فيه - والسبب هو الممارسات السلبية للإدارات الأميركية المتعاقبة معها. فواشنطن كانت على الدوام الحليف الاستراتيجي لباكستان ضد الهند، وظلت حتى العقدين الأخيرين سندا لـ«عسكر» البرازيل و«عنصريي» جنوب أفريقيا.. الحاكمين سابقا. وعليه، يمكن تماما فهم انعدام الثقة في عواصم هذه الدول بـ«أخلاقيات» واشنطن عند التعامل مع الديكتاتوريات.

وينجر هذا الأمر، بطبيعة الحال، على دول أخرى في العالم عانت ما عانته من غطرسة «اليانكي» الأميركي، ونراها تحاول اليوم كسر عزلة نظام دمشق من منطلق «عدو عدوي صديقي».. وببراءة وسذاجة مؤلمتين، تميلان إلى تصديق الشعارات بدلا من رصد الحقائق وتذكر الوقائع.

في مطلق الأحوال، وسط الحراك والحراك المضاد، لا يزال الصمت الإسرائيلي «يصم» الآذان.

غريب أن يكون لفنزويلا ودول الـ«ألبا» (تحالف الحكومات اليسارية) الأميركية اللاتينية – الواقعة عبر المحيطات والقارات – موقف قاطع مما يحدث في سوريا، ولا يكون هناك موقف لإسرائيل.. المفترض أنها دولة «عدوة» تربض عبر «خط هدنة».. رسمه احتلال ناجم عن حربين متتاليتين عامي 1967 و1973.

غريب أن القيّمين على «جائزة نوبل للسلام»، لم يلحظوا «سلمية» الانتفاضة السورية في خضم «الربيع العربي» المزلزل، فتجاهلوا رزان زيتونة وفداء الحوراني وسهير الأتاسي، وغيرهن من المناضلات السوريات، عندما تنبهوا لهذا «الربيع»، وكافأوا عن جدارة توكل كرمان (ألف مبروك لها).. وقرروا توسيع دائرة الفائزات بالجائزة. غريب حقا، ولا سيما أنه سبق لهم منحها من قبل لمتحاربين، وجماعات تتحدى الأوضاع القائمة لتشجيعها على الصمود.

ما يجوز افتراضه، أن إسرائيل والجماعات الداعمة لها، والموحية بأولوياتها السياسية، لا تزال تدافع حتى هذه اللحظة عن بقاء نظام الأسد. والأخطر من هذا، تبدو مستعدة للتعايش مع الواقع الإقليمي الأكبر الذي يجد هذا النظام نفسه مكونا أساسيا فيه.

هذا الواقع الإقليمي عبر عنه بالأمس ببلاغة التحذير الإيراني لتركيا «بضرورة تغيير موقفها» من حكام دمشق، وانفضاح دور القيادة العراقية في دعم النظام السوري.. بعد المساندة النشطة التي يقدمها له «حكام» لبنان الميدانيون.