المقلب الثاني عشر!

TT

أعود من جديد إلى معنى كان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد أشار إليه، عندما كان يكتب مقدمة لواحد من مؤلفاته.. هذا المعنى هو أن الشيء الوحيد، تقريبا، الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ككائن حي، أن الأول عنده حصيلة مستمرة من التجربة، وقادر في الوقت نفسه - وهذا هو الأهم - على أن يستفيد منها في حاضره، وفي مستقبله، بحيث لا يمكن القول أبدا إن الماضي بالنسبة له مجرد شيء قد تبدد وانتهى.. أما الحيوان، فهو على العكس من ذلك تماما، ليس لأنه بلا تجربة، لكن لأنه غير قادر مطلقا على أن يحولها إلى حصيلة في حياته، وغير قادر على الاستفادة منها بالتالي.. ولذلك، فالماضي بهذا المعنى بالنسبة للحيوان حكاية لا وجود لها، على مستوى التجربة، وأيضا على مستوى القدرة على تحويله إلى شيء مفيد في حياته.

وكان الأستاذ بهاء يدلل على صدق هذا المعنى، بأن الفأر - على سبيل المثال - يسقط الآن في المصيدة بالطريقة ذاتها التي سقط بها أول فأر في قائمة أجداده الطويلة منذ بدأت، دون أن تكون أمامه أدنى فرصة لأن يستفيد من كل تجارب الفئران الأجداد والآباء، مهما كان عددهم، ومهما كانت تجاربهم، وحجمها، وأهميتها، وخطورتها!

تذكرت هذا في الوقت الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة الأميركية أنها سوف تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن، إذا راح الرئيس الفلسطيني محمود عباس يطالب في داخل المجلس بمنح بلاده العضوية الكاملة في الأمم المتحدة باعتبارها المنظمة الدولية الأعلى التي تضم دول العالم أعضاء فيها!

كان الإعلان عن هذه الخطوة، من جانب واشنطن، مدهشا لبعضنا، وصادما للبعض الآخر، وغير مفهوم للبعض الثالث.. وهكذا.. وهكذا.. ولم يكن أحد بيننا قادرا على أن يرى المسألة في سياقها الطبيعي، وهو سياق يقول إن موقف الولايات المتحدة الأميركية من فلسطين كان هكذا بالضبط منذ كان الرئيس هاري ترومان على رأس الدولة الأميركية عام 1948 حين قامت إسرائيل، إلى اليوم، ومرورا بكل رئيس أميركي جاء من وقتها إلى هذه اللحظة، دون أن يطرأ أي تغيير على موقف أي منهم، لدرجة أنك تكاد تعتقد أن كل رئيس جديد يأتي إلى البيت الأبيض ويكون عليه أن يتخذ موقفا تجاه قضية تمثل إسرائيل وفلسطين طرفيها معا، فإنه، كرئيس، يعود إلى الرئيس السابق عليه، ليرى كيف كان موقفه، ثم يتخذ موقفا مطابقا، دون تفكير، ودون اجتهاد، ودون أن يوجع دماغه في تأمل القضية المعروضة عليه، ولو لدقيقة واحدة!

لماذا أقول هذا الكلام؟! أقوله لأنني أعرف أن صحيفة «هيرالد تريبيون» كانت في عام 1998 قد أصدرت عددا خاصا منها، يوم 29 أبريل (نيسان)، بمناسبة مرور 50 عاما على قيام دولة إسرائيل.. وفي ذلك العدد من الصحيفة طاب لها أن تعود إلى مواقف الرؤساء الأميركيين العشرة الذين تعاقبوا على الولايات المتحدة، على مدى الـ50 عاما، وأن ترصد موقف كل واحد منهم، إلى جوار الآخر، ليكون الحكم في النهاية للقارئ وحده.

كان عنوان الملف: ماذا تعني إسرائيل بالنسبة لك؟! وكان السؤال موجها إلى كل رئيس من الرؤساء العشرة، وكان تاريخ كل واحد منهم يجيب عن السؤال بوضوح، وسهولة، ودون أي صعوبة، ولا لف، ولا دوران.

الرئيس هاري ترومان قال: عندي إيمان بإسرائيل قبل تأسيسها، كما أن عندي إيمانا بها الآن، وأعتقد أنه سيكون هناك مستقبل متألق أمامها، ليس كمجرد أمة مستقلة جديدة، ولكن كتجسيد للمثاليات العظمى لمدنيتنا. أما الرئيس إيزنهاور، الذي جاء بعد ترومان مباشرة، فقد قال: لقد أنقذت قواتنا بقايا الشعب اليهودي بأوروبا من أجل حياة جديدة، وأمل جديد في أرض إسرائيل المتجددة، ونحن مع كل الرجال ذوي العزيمة الصادقة، وأحيي الدولة الصغيرة، وأتمنى لها الفلاح. وقال الرئيس الثالث كيندي: إسرائيل لم تخلق لتختفي، بل ستبقى وتزدهر، إنها وليد الأمل، والوطن للشجعان، ولن تنكسر بالافتراءات، أو بإفساد معنوياتها، إنها تحمل درع الديمقراطية، وتشهر سيف الحرية.. وقال الرئيس الرابع جونسون: إن مجتمعنا مضاء بالإدراك الروحاني للأنبياء العبريين، كما أن أميركا وإسرائيل لديهما حب عام للحرية الإنسانية، وإيمان بالأسلوب الديمقراطي للحياة. وقال الرئيس الخامس نيكسون: الأميركيون معجبون بالشعب الذي يحفر الصحراء ويحولها لحدائق، ولقد أثبت الإسرائيليون، بدلائل يقبلها الأميركيون، أن لديهم الشجاعة، والوطنية، والمثالية، والولع بالحرية.. لقد رأيت ذلك وأؤمن به. وقال الرئيس السادس فورد: التزامي بأمن ومستقبل إسرائيل قائم على مبادئ أساسية، وهو اهتمام شخصي كإنسان مثقف، كما أن دورنا في مساندة إسرائيل يشرف تراثنا الوطني. وقال الرئيس السابع كارتر: بقاء إسرائيل ليس مجرد قضية سياسية، لكنه التزام أدبي، وهذا هو إيماني العميق الذي أرتبط به، وهو الإيمان الذي يشاركني فيه الأغلبية العظمى من الشعب الأميركي، فإن إسرائيل القوية الآمنة ليست مجرد اهتمام الإسرائيليين، لكنها اهتمام الولايات المتحدة والعالم الحر كله. وقال الرئيس الثامن ريغان: يثبت الرجال والنساء الأحرار بإسرائيل، كل يوم، قوة الشجاعة والإيمان، وبالرجوع لعام 1948 عندما قامت إسرائيل، زعم النقاد أن الدولة الجديدة لا يمكن أن تستمر.. والآن لا يشك أحد في أن إسرائيل هي أرض الاستقرار والديمقراطية في منطقة الطغيان والاضطرابات. وقال الرئيس التاسع بوش الأب: لقد تمتعت الولايات المتحدة وإسرائيل لأكثر من 40 سنة بصداقة مبنية على احترام متبادل، والتزام بمبادئ الديمقراطية، ويبدأ استمرارنا بالبحث عن السلام في الشرق الأوسط بإدراك أن الروابط التي توحد بين دولتينا لا يمكن أن تنفصل. وقال الرئيس العاشر كلينتون: أميركا وإسرائيل يربطهما ميثاق خاص، وعلاقتنا فريدة من نوعها بين الأمم، فكما هو الحال في أميركا فإن إسرائيل تتمتع بديمقراطية قوية، كرمز للحرية، وهي واحة للاستقلال وملجأ للمظلومين والمضطهدين.

هذه هي مواقف الرؤساء العشرة، بعضها إلى جوار بعض، وهي - كما ترى - صورة بالكربون، وهي بالمناسبة مسجلة في كتاب «متى نصر الله؟» للأستاذ صالح الحديدي، وعندما جاء الرئيس الحادي عشر، بوش الابن، قال المعنى نفسه في عبارة شهيرة، ويومها ظلت قناة «الجزيرة» تكررها على شريط أخبارها، وكأنها تريد أن تذكرنا بأنها صورة طبق الأصل من الرؤساء العشرة السابقين عليه.

ولم يكن موقف أوباما، الرئيس الثاني عشر، في مجلس الأمن، ضد الدولة الفلسطينية، إلا صورة جديدة ومتكررة لمن يريد أن يفهم أو يستوعب.

والذين راحوا يقارنون بين موقفه يوم خطب في جامعة القاهرة، في أول أيامه، متعهدا بإقامة دولة فلسطينية، وبين موقفه في المجلس، رجال طيبون وحسنو النية قطعا؛ لأنه لا شيء يجعل الرئيس الأميركي يغير موقفه من إسرائيل، حتى لو كان قد ضحك علينا وخدعنا، في خطاب الجامعة!

وقبل أيام، ذهبت فلسطين تطلب عضوية المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو)، فاعترضت 4 دول (أميركا، إسرائيل، ألمانيا، لاتفيا) ولم تغير موافقة 40 دولة من أصل 58 دولة في «اليونيسكو» شيئا في الموضوع، وخرجت هيلاري كلينتون تقول إن على «اليونيسكو» أن تراجع موقفها إذا كانت تنوي منح عضويتها لفلسطين.

لا شيء إذن قد تغير عندهم، لا لشيء إلا لأننا لم نغير من أنفسنا، وحين نغير من أنفسنا، كما يأمرنا القرآن الكريم، فسوف يغير الله منا.. لا أكثر من ذلك، ولا أقل، وربما يكون هذا موضوعا لحديث آخر.