التحول الديمقراطي في عصور الانحطاط

TT

إذا صلح الحال في مصر سينصلح الحال في بقية البلدان العربية، فمصر النموذج سيكون لها تأثير بالقطع على التخوم السياسية والثقافية، ولكن التحدي الأكبر لمصر اليوم هو في كيفية الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي وهي خارجة لتوها من ثقافة الانحطاط. يتحدث المصريون اليوم كثيرا عن البلطجية الذين قد يزورون الانتخابات وقد يستخدمون طرقا غير مشروعة لتزوير إرادة الأمة متناسين أننا جميعا ترعرعنا في مجتمع كانت البلطجة عموده الفقري. و«البلطجة» لا أعني من يحملون السيوف والمديات في وجوه الناس في الشوارع، ولكنني أعني البلطجة كمفهوم واسع يشمل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية.

هناك خجل مصري من النظر في المرآة ومواجهة الحقيقة والاعتراف بأننا كنا نعيش في مجتمع بلطجي بامتياز بداية من البواب إلى صاحب العمارة إلى سائق التاكسي إلى الرئيس إلى من استولوا على أراضي الدولة بوضع اليد أو سلمها لهم الجيش أو المخابرات في سيناء وغيرها، كل ذلك كان بلطجة. أخذ الأراضي من المستثمرين الأجانب بعد أن دفعوا أثمانها عدّا ونقدا للدولة أو لسماسرتها بدعوى الوطنية هو بلطجة. موت وجيه أباظة صاحب توكيل «بيجو» كان نتيجة للبلطجة الرئاسية وليس بلطجة الأفراد العاديين. نواب مجالس الشعب والشورى وصلوا إلى مقاعدهم بالتزوير والبلطجة، الكتاب وأصحاب الرأي كانوا بلطجية للنظام يشرحون كل من يتجرأ على نقد النظام، الثقافة كانت بلطجة، للدرجة التي تمنى فيها المصريون وبالبلطجة أيضا أن يصبح شخصا منهم مديرا لليونيسكو، ونصب المصريون جنازة لأن العالم رفض البلطجة الثقافية.. اغتيال السادات كان رمزا لوصول البلطجة إلى أهم مؤسسة في البلاد. والاحتفاء بقتلة السادات، بعد خروجهم، بعد الثورة يمثل بلطجة إعلامية بامتياز. فكيف لمجتمع كانت البلطجة أساسه وعموده يصبح بين يوم وليلة مجتمعا ديمقراطيا لأن المجلس العسكري قرر أن يعقد للمصريين انتخابات في موعدها.

نهاية البلطجة ستأتي بتغييرات كبرى تؤصل لثقافة جديدة غير ثقافة الانحطاط التي سادت وما زالت بقاياها تحكم الأداء الإعلامي والحوار الدائر في مصر باستثناءات قليلة، وقليلة جدا. التحول الديمقراطي السليم يحدث عندما يقرر المجلس العسكري أن تنقية المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي هي البداية، ثم بعدها رسم ملامح الملعب أو حلبة المنافسة بين الجميع وتحديد قواعد اللعبة بطريقة تشمل الجميع وتسري على الجميع.

أما حتى هذه اللحظة فالجميع يستعين بالبلطجية لإنجاح مهمته، البلطجية أسماء مختلفة، فالأندية المصرية تستعين بالبلطجية وتدفع لهم وتسميهم الألتراس ultra أي المتعصبون للعبة، وهذا ليس صحيحا في حالة أندية مصر فهؤلاء ليسوا بمتغيرين للنادي ولكنها عصابات بلطجة استخدمتها حتى الثورة في إنهاك الأمن المركزي في الأيام الأولى، وهذا كلام لا يعرفه إلا من شارك في الثورة منذ أيامها الأولى.

حتى الآن لا توجد أي مؤشرات حقيقية تقول إن هناك نية لدى القائمين على الحكم في مصر للخروج من حالة البلطجة بأشكالها المختلفة.

تعرف أن البلطجة في نظام ما قد انتهت عندما تكون العبارات واضحة ومن دون لف أو دوران. عرفت أننا ليس لدينا نية للخروج من عالم البلطجة عندما قرأت أول إعلان دستوري وبعده قرأت الإعلان الذي يبايع الإعلان الأول المستفتى عليه من قبل الشعب.

تعرف أن هناك نية للتحول عندما تجد أن الدستور لا يزيد على 14 مادة تنظم الأسس الأساسية للدولة والمجتمع بوضوح وشفافية، خطوط عريض واضحة، هذا لم يكن موجودا لا في إعلان الاستفتاء ولا في الإعلان الدستوري اللاحق.

غياب الوضوح وغياب الرؤية الاستراتيجية الكبرى والتركيز على التفصيلات التكتيكية أصاب الثورة في مقتل، ولذا أرجح استمرار البلطجة كنظام يحكم الانتخابات القادمة.

من غير المعقول أن النظام الجديد يعتمد على كل أدوات النظام القديم وزيادة. خذ الإعلام في مصر مثلا، لم يتغير لا من حيث الملكية ولا من حيث التوجه السياسي، الحكومة ورجال الأعمال على عهدهم السابق لم يتغير ولن يتغير، لأن لديهم أدواتهم التي تحول بينهم وبين التغيير.

أدخل العسكر أيضا على الصحف مسألة الرقيب، التي لم تكن موجودة حتى في زمن حسني مبارك، ترى ماذا يريد هؤلاء؟

لو كانت هناك نية للديمقراطية وتبني مناخ جاد لحرية في مصر، فلتتأجل هذه الانتخابات البرلمانية ولستة أشهر أخرى، لأن «الناس مش فاهمة» المجلس يقصد «إيه» بإعلاناته الدستورية التي يلغي بعضها الآخر، والملعب غير واضح المعالم وقواعد اللعب «على قديمه». إذا كان الأمر كذلك فما هو لزوم الثورة؟

إن مصر تعاني من حالة انحطاط ثقافي قبل أن تعاني من انحطاط سياسي، والتحدي الأكبر هو الحديث عن حالة الانحطاط. نرى هذا الانحطاط في الشوارع وفي بيوت الثقافة والسياسة، الاعتراف بالانحطاط الثقافي للبلد هو بداية الحل.