المقال الأخير.. شكرا لـ«الشرق الأوسط»

TT

كنت في المرحلة المتوسطة عندما نشرت لي رسالة في بريد قراء «الشرق الأوسط». بالطبع لا أحتاج إلى شرح الفرحة التي استولت على قلب صبي يرى اسمه منشورا في أكبر صحيفة عربية، فكانت تلك الرسالة كافية لأن تبدأ مرحلة عشق جميل متواصل بيني وبين المطبوعة الدولية، بل حتى بعد دخولي إلى بلاط صاحبة الجلالة عام 1998 عن طريق صحيفة «الاقتصادية»، لم تتوقف تلك العلاقة بيني وبين «الشرق الأوسط»، ولا أظنها ستتوقف يوما، حتى وأنا أصل، عبرها، إلى رئاسة تحرير «الاقتصادية».

منذ تأسيسها عام 1978، وهي تزهو بحديقتها الغناء التي تزداد اخضرارا وعمقا يوما بعد الآخر، التحق بها صحافيون كبار، وتخرجت فيها قامات شكلت انعطافا في تاريخ الصحافة العربية، وبقيت هي كما بئر الماء المستمرة في التدفق دون توقف، ودون انتظار رد الجميل، هكذا كانت «الشرق الأوسط»، لا تعرف سوى العطاء والتألق ولا ترضى بغير القمة سبيلا.

13 عاما مرت على دخولي عالم الصحافة، بدأتها بـ«الاقتصادية» ثم «الشرق الأوسط»، وها أنا أعود إلى «الاقتصادية»، إلا أن المرحلة الأهم والأجمل والأكثر إثارة في مسيرتي الصحافية، هي السنتان الأخيرتان اللتان قضيتهما في المقر الرئيسي في لندن كمساعد لرئيس تحرير الخضراء الجميلة. نعم، إنها سنتان في حساب الزمن، لكن لو قدر لي أن أحسبها في حساب الخبرة العملية لقلت إنها تفوق 20 عاما، ففي هذه الفترة عاصرت وعملت وتواصلت مع نخبة من كبار المحررين والكتاب والمسؤولين في الوطن العربي والعالم، وراقبت واستفدت وتأثرت من المهنية العالية التي تتميز بها «الشرق الأوسط» بجميع تفاصيلها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى ربان هذه السفينة، وأعني الزميل طارق الحميد، ولأنه أصبح «رئيسا سابقا»، فقد يمنحني هذا تحررا من بعض القيود التي تربط أي رئيس ومرؤوسه، ولا يمنع هذا من الكشف عن بعض عيوبه، خاصة أنه لم يعد رئيسا! أليست هي عادة عربية خالصة في ذكر عيوب الرؤساء السابقين؟! ولعل أبرز عيوب رئيس تحرير أكبر صحيفة عربية، أن هذا الرجل لا يتوقف عن اللهث، ويجري معه باقي طاقم الصحيفة، في كل يوم وساعة، للوصول إلى مرحلة الكمال في الالتزام بالمهنية العالية قدر الإمكان، والبحث عن الأخبار المتميزة أينما كانت. ولا أبالغ إن قلت إنه بالفعل يزعج الجميع بهذا الحرص، الذي يراه البعض، أحيانا، يزيد على الحد الطبيعي، لكن الجميع يتفق على أن ذلك كان، ولا يزال، أحد أبرز أسباب تألق الصحيفة. ولعلي أشير هنا إلى أنني لم أذكر، وبحكم التصاقي بالعمل اليومي للصحيفة، أنه طلب الاهتمام بهذا الخبر أو ذاك، لمتطلبات المجاملة أو العلاقة الخاصة، وهذا أمر شائع في الكثير من الصحف العربية، للأسف، غير أني لم أجده موجودا لدى الحميد.

يفاخر الكثيرون ممن عملوا فيها لفترات قصيرة، أنه يكفيهم فخرا أن سيرتهم الذاتية تضمنت العمل بـ«الشرق الأوسط»، فكيف لمثلي عاش قارئا مفتونا بها، ثم مراسلا متعاونا صغيرا مزهوا مفتخرا بانتمائه لها، وأخيرا متقلدا منصبا قياديا؟! لا أشك مطلقا في أنه غاية وحلم غالبية الصحافيين العرب، فأي نوع من العشق ذاك الذي تبثه هذه الخضراء الجميلة في أبنائها؟! إنه النوع الذي لن تجده إلا في «الشرق الأوسط».

بقي أن أقول إنني ومنذ ابتدأت رحلة القراءة اليومية للصحف، كانت المتعة الأكبر لديّ هي بدء يومي بوجبة دسمة من المعرفة والاطلاع ومتابعة آخر الأخبار عبر «الشرق الأوسط»، إلا أن هذه المتعة زالت، تقريبا، مع التحاقي بالعمل في المركز الرئيسي للصحيفة، فقد كنت أتابع وأراقب الصفحات قبل خروجها للطباعة، بالإضافة إلى أني أقرأها في اليوم الآخر بعين المسؤول لا القارئ. أما وقد غادرتها، فآن الأوان لأعود للاستمتاع بهوايتي القديمة، على الأقل لأواسي نفسي بفائدة من خروجي منها.

نعم، غادرت «الشرق الأوسط»، لكنها لم، ولن، تغادرني، فكثير من ذكرياتنا تغادر المكان، لكنها لا تغادر الروح، لذا فلن أتوقف يوما عن الاستمتاع بقراءة الخضراء الرشيقة. شكرا لجميع الزملاء الذين ساندوني وأعانوني على مهمتي.. شكرا للمدرسة الصحافية العريقة.. شكرا لـ«الشرق الأوسط».. مرحبا بـ«الاقتصادية».

[email protected]