قراءة في تصنيف شنغهاي.. العرب يريدون كل شيء

TT

قبل أن ترى جامعات العالم نتيجتها في اختبار تصنيف شنغهاي تمر على مؤسسات تقييم محلية، تتيح لجامعات الدولة الواحدة أن تتنافس محليا بينها وبين بعضها بعضا، فينكشف مستوى كل جامعة بين أهلها، فقد تبرز جامعة الشرق في الهندسة وجامعة الوسط في الطب وجامعة الغرب في تقنية المعلومات، وتبدي تطورا أقل في مجالات أخرى، وهكذا. عمل منظم يشبه المسابقات الرياضية التي تبدأ محلية ثم إقليمية فقارية ثم عالمية، هذا التنظيم بالتأكيد أهم أحد أسباب الحث على الإنجاز، لكنه للأسف غير موجود في الدول العربية.

جامعة هارفارد، الأولى عالميا، لا تنافسها أي جامعة في العالم في الطب وإدارة الأعمال، لكنها تتراجع حتى داخل الولايات المتحدة في مجالات أخرى كتقنية المعلومات والتكنولوجيا، فاسحة المجال لجامعة ستانفورد ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. هل تظنون أن هارفارد تشعر بالإحباط لذلك؟ على الإطلاق، بل إن هذه النتيجة جاءت على علم، حيث توزعت تخصصات الجامعات بين الولايات بتنوع دقيق جعل أميركا في النهاية الأولى عالميا في كل التخصصات.

العرب بكل أسف يريدون كل شيء، فلم يحصلوا إلا على القليل. فهل تستطيع الدول العربية أن تتبع المنهج الانتخابي نفسه في البحث العلمي؟

لا أستطيع أن أكون متفائلة وسط حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة العربية، لكن التاريخ يقول إن تايوان تجرأت أن تتطاول بعلمها على الصين الشعبية خلال 30 عاما من النزاعات والتهديدات والتوتر، وأجبرتها على مد يد التعاون الاقتصادي في مجالات التكنولوجيا، وإن كانت القلوب غير صافية.. واليابان خرجت من تحت أنقاض القنبلة النووية وأصبحت خلال المدة نفسها دولة صناعية كبرى. وكوريا الجنوبية التي كانت تتسول المساعدات الدولية احتاجت الوقت نفسه لتكون مصدرا عالميا رئيسيا لصناعة الإلكترونيات.

السؤال الكبير هو: كم عدد الدول العربية التي سيراها العالم بعد 30 سنة تحتكر حقلا علميا ذا منتج اقتصادي يعبر فعلا عن معنى الاقتصاد المعرفي؟

الدول المرشحة غالبا هي دول الخليج العربي، ليس بسبب رخائها الاقتصادي وحسب رغم أهمية هذا العامل، لكن لأنها تولي اهتماما كبيرا للتنمية العلمية، ولكن في الواقع أنه حتى دول الخليج عليها أن تعمل بجد إن أرادت أن تكون مثل تايوان أو إسرائيل.

ما زلت أرى الخلل في التخطيط، العرب يريدون كل شيء، لكنهم يشتتون جهودهم فتكون المحصلة متواضعة.

خلال فعاليات سوق عكاظ الثقافي في مدينة الطائف السعودية قبل أسبوعين، استمعت إلى محاضرة نائب رئيس مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، التي عرضها على شاشة من صنع كوريا الجنوبية. كان شرحا موسعا وجميلا لمشروعات المدينة.. أرقام إنفاق هائلة، تكفي لتحسين مزاج الاقتصاد العالمي. الدولة السعودية تنفق بشكل لا يصدقه عقل على التعليم والبحث العلمي، وهي في ذلك تشبه إسرائيل التي تعطي التعليم ربع موازنتها، لكن الحقيقة المزعجة أن المخرجات في السعودية أقل بكثير من المأمول. وفي رأيي أن الخلل يمكن ملاحظته خلال المعلومات التي ظهرت أمامنا على الشاشة، فالمدينة تدعم أبحاثا تتعلق بـ15 مجالا علميا في الطب والعلوم وتقنية النانو وتقنية المعلومات والعلوم الإنسانية.

لو ظلت المدينة تنفق بهذه المنهجية مائة عام قادمة فإنها لن تحصل على أكثر مما حصلت عليه حتى الآن.

لا مفر من سياسة التركيز. المملكة لديها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ولديها مدينة الملك عبد العزيز التي أتمنى أن تتحول إلى جامعة بحثية هي الأخرى، وهناك جامعة الملك سعود التي انقلبت رأسا على عقب في مستواها البحثي خلال أربع سنوات، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي خدمتها محدودية تخصصها.. لو وضعت خطة وطنية تشمل هذه المؤسسات الأربع لتحديد 3 أولويات بحثية على الأكثر لكل مؤسسة، ستجد السعودية نفسها بعد 30 عاما تمتلك أحد رفوف المنتجات المعرفية.

وإن كانت المنطقة محظوظة وتبعت قطر والإمارات العربية المتحدة المفهوم نفسه، فقد تتشكل منظومة اقتصادية هائلة تشبه النمور الآسيوية: تايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ.

لنقرأ تصنيف شنغهاي من زاوية مختلفة، التصنيف لا يقول أي الجامعات الأكثر في تنوع تخصصاتها العلمية، ولا يقول أي الجامعات الأعلى عددا في طلابها، ولا يستعرض الجامعات الأكبر مساحة عرضا أو طولا، إنما يشير إلى الدولة الأكثر قدرة على التخطيط بواقعية، وإعادة تشكيل الذات بلا خجل، والتغيير بشجاعة.

* كاتبة سعودية

[email protected]