إنه مثل حيوان اللؤلؤ!

TT

أحيانا أجدني مرهقا، أعرف ما الذي سوف أكتبه بوضوح.. ولكن همتي وعزيمتي خائرتان.. فأنا أحتاج إلى تنشيط ويكون هذا التنشيط بعمل الشاي.. فقط الشاي بسكر قليل جدا أو ببعض اللبن.. بشرط ألا أتناول أكثر من كوب.. أما الكوب فهو مشكلة أخرى، فلأنني لا أعرف بالضبط كم كوبا سوف أشرب ولأنني أكره أن يتغير طعم الشاي أو درجة حرارته، فإنني أضع الشاي في كوب كبير جدا.. وبذلك أضمن طعما واحدا للشاي ودرجة حرارة واحدة.. وكثافة واحدة.. قد أشربه كله أو بعضه.. وقد لا أشربه.. فأنا أحاول تنشيط قدراتي العقلية!

فأنا كما يقول الطبيب العظيم جالينوس لست إلا وعاء من السوائل يختلط بعضها ببعض.. ومن هذه السوائل يتكون المزاج.. الذي أسميه أنا «كيمياء التفكير» أو البيئة الداخلية للعمل العقلي.. لأن هناك بيئة خارجية أيضا.. ومن اعتدالهما وانسجامهما أصبح قادرا على الكتابة.

ولذلك أطلت النظر في حياة «حيوان اللؤلؤ» وكتبت عنه كثيرا.. فهو يعيش في صدفة من الجير المنيع.. وهو يطبقها على نفسه.. برجا صدفيا.. أو صومعة محكمة.. أو معملا نائيا.. أو غواصة.. أو سفينة فضاء.. في حماية تامة من أي تدخل خارجي.. حيوان اللؤلؤ هذا ينطوي في داخل معمله يفرز هذه المادة اللامعة التي نسميها اللؤلؤ.. في درجة حرارة لا تتغير.. وعلى ارتفاع ثابت عن سطح الماء ومن قاع المحيط.. أي في مجال مغناطيسي تتساوى قوته على جوانب حبة اللؤلؤ.. وهذا ما اهتدى إليه علماء الفضاء أخيرا.. فهم يرون أن كل قطرة من الزجاج السائل أو الصلب السائل تكون كاملة الاستدارة في منطقة «انعدام الوزن» لأنه لا توجد قوة جذب من أي ناحية.. وعلى ذلك فجوانبها تكون كاملة الاستدارة.. وقد اهتدى إلى ذلك حيوان اللؤلؤ بالغريزة.. إنه لكي تكون الحبة كاملة الاستدارة يجب أن تكون جميع قوى الجاذبية الأرضية ثابتة لكي يتحرك بمقتضاها فيقاومها حتى تكتمل الاستدارة لكل حبات اللؤلؤ.. أما الحيوان القلق الذي يعلو ويهبط.. ويفتح أبوابه ويقفلها.. والذي يبرد ويسخن ويجوع ويمرض فهو العاجز تماما عن «تكوير» حبة اللؤلؤ.. وكذلك المفكر والفنان!

ولا أدعي أنني سوف أعود بقلمي وخيالي وهمتي وعزيمتي إلى إعادة النظر والتأمل في كل الذي كتبت.. وإنما يكفي أن أوهم نفسي بذلك.. فإن اتسع العمر والصدر فلعلي أفعل ذلك.. وإلا فأنا وأفكاري وأنت أيضا قد قلنا كل ما لدينا.. إلا قليلا!

فالكاتب يشبه الذي يقف أمام القاضي ويقسم: أقول الحق ولا شيء إلا الحق.. وكل الحق!

أما إنه يقول الحق فصحيح.. ولا شيء إلا الحق فصحيح أيضا.. أما «كل» الحق فليس صحيحا.. فلا أحد يعرف كل شيء.. ولا أحد قال كل شيء.. وإنما بعض الشيء بعض الوقت.. أي الحقيقة.. إلا قليلا!