الإمبراطور والموسيقار

TT

عندما شرع نابليون في فتوحاته، قدم نفسه للعالم باسم ابن الثورة. يقصد بها طبعا الثورة الفرنسية بمبادئها الثلاثية: الحرية والمساواة والإخاء. جعل ذلك سائر المثقفين والفنانين والمفكرين الأحرار يلتفون حوله. كان منهم ذلك الموسيقار المتشبث بالروح الإنسانية، والمؤمن بتقدم المجتمع، لودفيغ بيتهوفن، فانكب على البيانو وتناول الورق والقلم يكتب سيمفونية يمجد فيها نابليون وما بشر به من مبادئ. وسماها بالارويكا (البطولية) تيمنا ببطولة نابليون. وبينما كان يستعد لتقديم هذا العمل الخطير عام 1805، سمع بأن بطله المحرر هذا، ابن الثورة، قد أعلن عن تنصيب نفسه إمبراطورا على فرنسا وأوروبا. سرت موجة من الغضب في عروق بيتهوفن، فأسرع إلى نص السيمفونية ومزق الصحيفة الأولى التي تحمل اسم الارويكا. ثم قدمها للجمهور بمجرد عنوان رقمي، السيمفونية رقم ثلاثة. وهكذا رحنا نعرفها بهذا الاسم، وإن كان البعض يشير إلى اسمها الأصلي، ارويكا.

ظل الموسيقار الكبير حانقا على بطله، متبرما من عمله، يتجاهل الإمبراطور ويتحاشى الالتقاء به. ومرت الأشهر والأعوام. وخرج لودفيغ بيتهوفن ذات يوم مع صديقه الأديب والشاعر الكبير غوته في مشوار أثناء زيارتهما للغابة السوداء في جنوب ألمانيا. زرت هذه الغابة في أيام زمان ولاحظت اكتظاظها بالأشجار الكثيفة، بحيث لا يستطيع المار غير أن يلتزم بممراتها الضيقة ولا يحيد عنها. وقدر لهذين العملاقين من عمالقة الفن والفكر الأوروبي أن يلاحظا في آخر الممر شخصا متجلببا بمعطف أسود كثيف وبرنيطة عالية وعريضة سوداء كذلك، يسير في اتجاههما. لم يكن ذلك الرجل غير الإمبراطور نابليون بونابرت نفسه. لم تكن زبانية «القاعدة» والإرهاب الإسلامجي قد دخلوا القارة الأوروبية بعد ليحتاج الإمبراطور لمن يحرسه. مضى نابليون في مشواره على الممر الضيق بين الأشجار الكثيفة حتى اقترب من غوته وبيتهوفن. تنحى الشاعر جانبا ليسمح له بالمرور. وعندما وصل ومر أمامه انحنى له غوته بالتحية والإجلال. أما بيتهوفن فقد تجاهل الإمبراطور كليا ومضى في سيره إلى الأمام. وعندما اقترب منه تنحى نابليون جانبا ليسمح لبيتهوفن بالمرور. وعندما وصل ومر أمامه، انحنى الإمبراطور للموسيقار بالتحية والإجلال. واجتازه بيتهوفن شامخا متجاهلا.

لا شك أن من سيقرأ هذه الحكاية من قرائي سيقف ويتساءل، كما خطر لي وتساءلت: ماذا سيحدث لو أن واحدا من الموسيقجية فعل مثل ذلك أمام صدام حسين أو بشار الأسد أو القذافي أو أي رئيس آخر من رؤسائنا، فما الذي سيحدث له ولأسرته وعشيرته، ولأطرافه وأعضائه، ولعينيه وأذنيه ومنخريه وكل سنتيمتر من جسمه؟

لا أريد أن أقول، أعطنا يا رب رئيسا لنا من وزن ذلك الرئيس فقط، ولكن أعطنا فنانا أيضا من وزن ذلك الفنان وإبائه.