لماذا فقدت حمص ابنها الذي لا تعرفه؟!

TT

حمص مدينة الطرائف والمفارقات. مدينة الدعابة. الحماصنة قوم ظرفاء. لا يجيدون النكتة. إنما يتقبلونها باسترخاء عجيب، حتى تلك التي تشكك في ذكائهم، وهم الذين أنجبوا لسوريا ثلاثة رؤساء. ومئات الوزراء والدبلوماسيين والأدباء. بينهم طبيب النفس. والعقل. والسياسة جمال أتاسي. وفيضي الأتاسي الذي كان يلف عنقه بعقدة الـ«بابيون» كلما رسم وزيرا للخارجية. وسامي الدروبي صاحب الترجمة الرائعة لدستويفسكي. ثم روحي فيصل الأديب الذي كان يعد في مقهاه «الأركيلة» لزبائنه، من قراء وأميين. وينسى أن يتقاضى الأجر.

حمص مدينة المحبة والتسامح. منذ أن رقد في ترابها البطل الخالد بن الوليد، فقد تعايش فيها بسلام عربها، سنة. وعلويين. ومسيحيين، إلى أن اقتحمها جيش العائلة. فغدت مدينة الشهداء.

حمص اليوم أشد حزنا. فهي تبكي ابنا لم تلده. ولم تعرفه. وهو لم يزرها. لم يحك لغتها! هكذا حمص دائما مدينة الطرائف والمفارقات العجيبة. قبل نحو ستين سنة، غادر الشاب عبد الفتاح الجندلي أسرته الحمصية العريقة، إلى بلد العجائب أميركا. درس علم السياسة. تخرج. فاحتضنته جامعة نيفادا أستاذا فيها.

طرق الحب قلب بروفسور حمص. فغدا اسمه «جون»، وأحبته بشغف فتاته الأميركية. ثم ضعف الحب أمام الخطيئة. فولد ابنها «ستيف». كان والد الفتاة عنصريا متشددا. رفض أن تتزوج ابنته عربيا. بل أجبرها على التخلص من وليدها. تحدى جون عمه «الافتراضي» بذكاء الحماصنة. فاستولد فتاته مولودا آخر. ثم تزوجها.

تفاديا للصراع بين أبيها وحبيبها، فقد حملت الفتاة ولديها «ستيف. ومنى». وأودعتهما لدى آل «جوبز». فحملا اسم الأسرة التي تبنتهما. لكن ظلا على علاقة ود مع أمهما الأصيلة. وقبل أن يبلغ الأب الأصلي جندلي عامه الثمانين، أبلغته زوجته الحقيقة الغائبة. فبات الحمصي العجوز فخورا بابنه «ستيف جوبز» الذي غدا أكبر عقل إلكتروني مبتكر في العالم.

أسس الفتى الحمصي «ستيف» شركة «أبل» الشهيرة في مرآب للسيارات (1976). طور أول كومبيوتر (ماكنتوش). أنتج أول فيلم للرسوم المتحركة بواسطة الكومبيوتر. ثم انتزع ريادة الانتقال بالموسيقى. والأفلام. والهواتف الجوالة، إلى التقنية الرقمية المذهلة.

كسبت «أبل» مئات المليارات من ابتكارات الحمصي ستيف. وبات هو أيضا مليارديرا يملك 8.3 مليار دولار. كسب ستيف جوبز جندلي العالم. لكن خسر باكرا معركته «اللاإلكترونية» مع سرطان البنكرياس. مات ستيف منذ أيام قليلة عن 56 عاما. بكاه شباب العالم. أشاد بعبقريته وتفوقه منافسوه في الصناعة الإلكترونية. رثاه أوباما وزعماء العالم. وبكت حمص ابنها الذي لم تعرفه. وواست أباه العجوز الذي تعرف متأخرا عليه. ولم يعرف بعد من سيرث ثروته. والداه الأصليان؟ أم والداه بالتبني؟

ترى لو عاد الأب الجندلي بابنه إلى حمص، فهل كان بإمكان ستيف أن يذهل العالم بهذه الابتكارات؟ هذه هي مأساة العرب: انعدام مخصصات البحث العلمي. الجامعات تفرخ موظفين. ولا تنتج علماء وباحثين.

العرب اليوم أمة مهاجرة. هناك اليوم نحو 25 مليون عربي مهاجر. مهجر. ونازح. طاردتهم الغربة في الوطن. فحملوا أملهم إلى عالم يظنونه أفضل وأكثر إنسانية. بين هؤلاء ثلاثة ملايين سوري. منهم مئات ألوف الطلبة. العمال. رجال الأعمال. بينهم عشرات ألوف الأكاديميين. والباحثين العلميين. والمبتكرين المبدعين. من أمثال الحمصي ستيف جوبز.

لماذا ينجح السوريون في الخارج. ويخفقون في الوطن؟!

لأن هناك عائلة واحدة تحتكر السلطة والسياسة. لأن هناك طائفة تحتكر الفساد. المحاباة في العمل. في الوظيفة المدنية. في الجيش. في حزب وجوهه كالحة لا تبتسم. لا تتغير. تمنح نفسها، في حماية العائلة والطائفة، الحق في أن توجه. تدير. من دون أن تملك تفوق وذكاء وألمعية ستيف جوبز.

لو ولد الحمصي ستيف جوبز في حمص، ربما لأودعته الانتفاضة على الانتفاضة زنزانة ضيقة. ربما لرسم له القمع مصيرا آخر في الوطن، غير المصير الذي رسمه له القدر في الغربة. ربما لتسلمه أبوه جون عبد الفتاح جثة هامدة. وأجبروه على تشييعه حاملا صورة لبشار.

سوريا اليوم تعيش هاجس رعب متبادلا: نظام يخاف شعبه فيقمعه. وشعب فقد صبره. فبدأ يتسلح. منذ لحظة انفجار الانتفاضة، قلت هنا إنها لن تكون سلمية. لأن النظام المتكلس عاجز عن تقديم «تنازلات» إلى شعبه. سقط مبارك وزين العابدين بن علي، لأنهما اعتمدا سلطة الحزب. حزب السلطة أكثر تهافتا. لماذا سقط صدام والقذافي، بعد صمود أطول؟ لأن العشيرة، في حياتنا السياسية، أقوى من الحزب. لماذا استمر بشار أطول وأطول؟ لأن قشرة الطائفة أكثر صلابة. ومقاومة. وأشد انغلاقا من الحزب والعشيرة.

لماذا السلاح؟ من هم هؤلاء المسلحون؟ هاجس الرعب يلغي حالة الصدق والمصارحة. لا المعارضة تقول. لا إعلام الانتفاضة يكشف السر. لكن وجوه النساء المتظاهرات المخضبة بالسواد توحي بنذير ما. صور بن لادن، في مظاهرات السوريين واللبنانيين في طرابلس لبنان، توحي بأننا أمام احتمال قيام نظام قمعي بديل. نظام يحتكر الإكراه الاجتماعي، بالإضافة إلى احتمال وراثة الإكراه السياسي، من نظام يحتضر.

المثل السوري الدارج يقول: «من تحت الدلف إلى تحت المزراب». كأننا يا حليمة لا رحنا. ولا جينا. نظام العائلة يرغب في أن يحمل هؤلاء السذج المتشددون السلاح. بسلاحهم سوف يتذرع بقمعه. وسفكه الدماء. بل بسلاحهم يعتقد أنه قادر على تحقيق انتصار آخر. شبيه بسحقه «الإخوان» المسلحين في السبعينات والثمانينات.

أشعر بالقلق. الرعب المتبادل يدمي الانتفاضة. يحول المتظاهرين المسالمين إلى ثوار دمويين. مظاهر التسلح والاقتتال تبدو جلية في تصعيد العنف. من القمع إلى التعذيب. القنص. القتل. الخطف. الاغتيال. تهديد الأهل. استخدام الصواريخ والهليكوبتر. إعدام الجنود رافضي المشاركة في المجزرة. ملاحقة انتفاضة الخارج. السفارات تغص بسفراء الطائفة. ودبلوماسييها. وبحراسها الأمنيين من الشبيحة.

مع القلق، يرتسم الأمل في سوريا المستقبل. الأمل في نظام لا يبتلع الدولة. والوطن. والمجتمع. في رئيس لا يتصرف كوريث. في جيش ليس بأسد علي وفي الحروب نعامة.

منذ حرب النكسة، أنفق السوريون، من فقرهم وعرق جباههم. ولقمة عيشهم، على الجيش وأجهزة الأمن ما يقدر بـ220 مليار دولار. ليجدوا هذا الجيش. وهذه الأجهزة، تقتلهم اليوم بلا أخلاقية. بلا إنسانية. في الانتفاضة، عدد القتلى بلغ خلال ستة شهور خمسة آلاف، وليس ثلاثة آلاف ضحية. لم يتم بعد احتساب ضحايا الأقبية والمقابر الجماعية.

نريد في المستقبل جيشا سوريا وطنيا يتيح الانتساب لكلياته، في فرص متكافئة. متساوية لشباب الوطن. نريد جيشا محايدا مستقلا عن الأحزاب. خاضعا لسلطة مدنية منتخبة. جيشا يحترم الديمقراطية. نريد وزيرا مدنيا له، لا يرصع صدره بنياشين التنك التي ينفض الجنرالات عنها غبار الصدأ، بعد كل هزيمة.