ماكينة الحيرة في مصر

TT

أحد ملامح المشهد المصري الحالي الذي مر بمأساة الأحداث الدامية أمام مبنى ماسبيرو والتي أخذت بعدا طائفيا خطيرا يهدد النسيج الوطني وعلاقة عنصري الأمة؛ المسلمين والمسيحيين، هو الشائعات والكلام المرسل الكثير الذي يعلن اليوم ليقال عكسه في اليوم التالي وتتوه الحقيقة. الجميع يشكك في الجميع، والمواقف السياسية تتبدل بين لحظة وأخرى، والرأي العام محتار ولا يعرف أحد حقيقة ما حدث أو أسبابه الفعلية لمعالجتها، وكأن هناك ماكينة تضليل تسعى إلى إبقاء العقول في حالة لخبطة.

سقط نحو 25 قتيلا في مصادمات دامية بعد مسيرة لمسيحيين يحتجون على أحداث إحراق كنيسة أو دار ضيافة في أسوان، وتعددت الروايات أمس، شهادات الشهود متناقضة، والإعلام يقدم قصصا متباينة، ولا نعرف من الذي بدأ بإطلاق النار، وما هي قصة البلطجية الذين يظهرون في كل مناسبة ليحولوا مظاهرة سلمية إلى عنيفة دموية، ولماذا لم يتم تدارك الأزمة منذ بدايتها في أسوان والحسم فيها بالقانون حتى يرتاح الجميع، ولماذا انفلتت الأعصاب بهذا الشكل لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وما هي حكاية هذا الأداء الإعلامي المرتبك، الذي وصل في بعض اللحظات إلى التحريض بدون أي مسؤولية بدلا من التهدئة.

مثال على ماكينة التضليل تصريح غريب انتشر على مواقع الإنترنت وتداولته وسائل إعلام مصرية وسط الأحداث الدامية التي شهدتها ليلة أول من أمس لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ينسب إليها قولها لشبكة «سي إن إن» تحذيرها للمجلس العسكري الحاكم من المساس بالأقليات وعرض إرسال قوات أميركية لحماية دور العبادة والمنشآت المهمة، وجرى تداول الخبر والتعليق عليه بدون تمحيص أو تدقيق لينفيه مسؤولون أميركيون أمس، فضلا عن أنه لم تنشر هذا الكلام وسيلة إعلام محترمة واحدة أو الشبكة المنسوب إليها نقل هذا التصريح.

الكلام المنسوب يبدو غير منطقي أو فيه أي سياسة، لأن معناه تدخلا خارجيا عسكريا، وهو ما لا بد أن يثير الرأي العام المصري ويؤدي إلى ردات فعل غاضبة، ويبدو أن هذا كان هدف المواقع التي تناقلت وروجت للخبر، سواء كانت تعرف أنه غير صحيح أو خُدعت فيه.. المزيد من صب الزيت على النار والشحن الطائفي في وسط أزمة ملتهبة ولها رواسبها الطويلة، والترويج لفكرة أن هناك من يريد وضع مصر تحت الحماية الدولية، ولو فكر أحد بعمق سيجده كلاما أخرق، لأن لا أحد يستطيع وضع دولة تضم 85 مليونا تحت الحماية ويتحمل مسؤوليتها.

مصر تمر بمرحلة انتقالية تشبه فيها سفينة تبحر وسط عواصف عاتية، وتحتاج إلى الكثير من الحكمة والعقل للوصول إلى مرساها، وطبيعي أن تنفتح بعد ثورة، مثل التي حدثت في 25 يناير، المطالب من كل شكل ونوع للفئات التي كانت تشعر أنها مظلومة أو لم تحصل على حقوقها، وبينها المسيحيون الذين يشعرون أنه كان هناك ظلم فيما يختص بالقوانين التي كانت تنظم إنشاء دور العبادة، وطبيعي أن يكون لهم مخاوفهم وهم يرون صعود تيارات إسلامية فُتحت لها حرية الحركة بعد 25 يناير وتتحدث الآن عن دولة إسلامية، لذلك فإن التطبيق الصارم للقانون، وتعظيم القوانين التي تجرم التحريض الطائفي، هو الضمانة لعدم تصاعد هذه الاحتقانات بالشكل الذي رأيناه.

الطريق صعب والعلاج هو بتقديم الحقائق، والمصارحة، وإذا كانت المهمة شاقة ومربكة للسلطة الحالية التي تدير الأمور في مواجهة سيل المطالب والاحتجاجات بينما البلاد تمر بمنحدر اقتصادي يهدد بالإفلاس كما تحذر المؤشرات الدولية، فإنه لا بأس من أن تصارح الحكومة والمجلس العسكري الناس بأن مهمتهم انتقالية تتمثل في تسليم السلطة بشكل آمن من خلال الانتخابات، وأن القضايا الكبرى والمطالبات الكثيرة يجب أن تنتظر الحكومة والرئيس المنتخبين المقبلين، شرط أن يجري تسريع عملية تسليم السلطة.