وفاة ستيف جوبز!

TT

كانت المرة الثانية التي أذهب فيها إلى جامعة هارفارد لكي ألقي محاضرة عن «الربيع العربي». المرة الأولى كانت في كلية جون كيندي لدراسة الحكومات حيث يوجد «كونسورتيوم» لمراكز البحث المتخصصة في الشرق الأوسط بقيادة مركز «بلفر» في جامعة هارفارد، ومركز «كراون» في جامعة برانديز. وفي المرة الثانية كانت المحاضرة في كلية القانون الشهيرة، وفي قسم خاص بالمفاوضات، الذي أفرد برنامجا خاصا عن مفاوضات الشرق الأوسط. وهكذا بينما كانت المحاضرة الأولى عن الثورة المصرية، فإن الثانية كانت عن العلاقات الدولية للثورات العربية، وتأثيراتها على العلاقات العربية - خاصة المصرية - مع إسرائيل.

لكن يوم المحاضرة كان السادس من أكتوبر (تشرين الأول)، وهو يوم ذكرى حرب مغرية بالحديث، وهو يوم اغتيال الرئيس السادات، الشخص الذي يستحق الكثير من التحليل والفهم في عالم عربي لم يفهمه الكثيرون. ومع ذلك فإن ذلك كله قابل للتأجيل في هذا المقال؛ لأنه ليلة المحاضرة توفي ستيف جوبز، صاحب شركة «أبل» للكومبيوتر، ومن ثم وجدت أنه من اللائق أن أبدأ حديثي ليس فقط بتعزية الأميركيين الحاضرين في راحل عظيم، لكن لأن الرجل كان وراء تغيير العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي ما يخصنا فقد كان فاعلا رئيسيا في الظاهرة التي نسميها «الربيع العربي» خطأ أو صوابا.

وحتى نفهم ما فعل الرجل، علينا فقط تخيل الفترة التي احتاجها التحول في صناعة السفن من الخشب إلى الصلب لكي تصبح فاعلا في حركة التجارة الدولية، أو بالطبع صناعة السفن الحربية وما فيها من قدرة على السيطرة والإخضاع. أو نتخيل اختراعا مثل الآلة البخارية التي أدت إلى صناعة السكك الحديدية فربطت قارات ودولا، ونقلت بضائع وركاب. وحتى صناعة حديثة نسبية مثل اختراع السيارات، حتى أدت إلى الاستغناء الكامل عن الدواب وقوافلها في النقل والترحال. ذلك كله كان عهدا، وعهد ستيف جوبز - وبيل غيتس بالطبع - كان عهدا آخر حينما ظهرا في الثمانينات من القرن الماضي ثم انتشرا في بقاع الأرض مثلما تسري النار في الهشيم لكي يقلبا وسائل الاتصال والمواصلات - وبالطبع الأسلحة - رأسا على عقب حتى وصلت إلينا أسرع من كل الثورات الصناعية السابقة. ولا يمكن فهم كل الثورات العربية التي نعيشها، والتي سوف نعيشها في المستقبل القريب، إلا من خلال ذلك الزواج بين طاقة الشباب الناجمة عن تغيرات ديموغرافية تولدت عن انخفاض نسب وفيات الأطفال، مع عصر الكومبيوتر ومشتقاته منذ ميلاده حتى الآن. الغريب، وهذا واضح لي في الحالة المصرية وضوح شمس صيف كما يقال، أن ذلك جرى بينما الطبقة الحاكمة، في معظمها على الأقل، لا تعرف شيئا عن ذلك التغير الهائل الذي جرى في مجال الاتصال. وعندما أصبحت رئيسا لمجلس إدارة صحيفة «الأهرام» في الرابع من يوليو (تموز) 2009 كنت أول رئيس لمجلس الإدارة في تاريخ صحيفة عمرها 135 عاما يستخدم الكومبيوتر في عمله اليومي، سواء لكتابة مقالاته أو لمتابعة أعمال المؤسسة؛ لذلك جرى كسر في المجتمع - فلنسمِّه ثورة - بين جيل تضاعفت قوته العددية بمقدار معرفته بتكنولوجيات حديثة جعلته أكثر سرعة في الحركة ونقل الأخبار وتحديد وصياغة الشعارات الأساسية، بينما قوة الدولة تلهث وراءهم باستخدام أدوات عتيقة.

وبالتأكيد، فقد كنت محظوظا حينما كنت بالولايات المتحدة ساعة ميلاد الكومبيوتر، فحينما دخلتها كان هناك جهاز يسمى الكومبيوتر يستخدم لإجراء الحسابات والإحصاءات، يقوم على كتابة كروت بطريقة «التثقيب» ثم بعد ذلك يجري فحصها وحساب نتائجها. كانت عملية بالغة السخف، وكثيرة الأخطاء، وكان الخطأ الواحد يعني دائما أن تبدأ من جديد. ولكن لأن الحظ كان عاليا فقد ظهر الكومبيوتر الشخصي أثناء كتابتي لرسالة الدكتوراه فجاء الاختراع تماما في وقته لكي أحصل على رسالة محفوظة على «أسطوانات» لا أظن أنه من الممكن استخدامها والطباعة منها الآن.

لكن العالم كان قد تغير عن طريق حفنة صغيرة من ثوار الستينات تركوا جامعاتهم وذهبوا إلى «جراجات» متعددة لكي يخرجوا لنا نوعيات متقدمة من الكومبيوتر، والتليفون الجوال، والـ«آي باد»، وما اشتق من هؤلاء جميعا من مشتقات رائعة، ومبدعة، وبالفعل تُغير حياة الإنسان؛ حيث لا تصبح علاقته بالزمان والمكان مختلفة تماما عما كانت عليه.

ستيف جوبز كان أبرز أبناء جيله، وربما تعدته ثروة بيل غيتس، 60 مليار دولار، ولم تصل ثروة ستيف جوبز لأكثر من 8.3 مليار دولار، لكن تأثير هذا الأخير كان أكبر وأوسع. وربما كانت وفاته المبكرة هذه وهو في سن السادسة والخمسين واحدة من العلامات على عبقريته التي لمعت مثل الشهاب في عالم معقد، لكن ضوءها يظل مستمرا معنا لسنوات وعقود.

لقد أصبحت السيرة الذاتية للرجل ذائعة الآن في كل وسائل الإعلام، ولا بد أن كثيرا من العرب تساءلوا: لماذا قام الفتى السوري عبد الفتاح الجندلي، الطالب في العلوم السياسية، هو وفتاته جوان كارول شيبيل بطرح ابنهما للتبني حتى تبنته أسرة عاملة لم تستطع تعليمه إلا في كلية إقليمية صغيرة فلم يمضِ فيها أكثر من شهور سبعة؟ ومن المؤكد أن هناك تساؤلات شتى حول مشاعر الجندلي الآن وقد اكتسب ابنه «البيولوجي» هذه المكانة من العبقرية.. لكن الإجابة عن هذه التساؤلات ليست مهمة، فربما كانت القضية أن يكون الرجل وحيدا في العالم لكي يثبت دور «الفرد» في التاريخ، الذي تتجاهله كثير من النظريات الاقتصادية والاجتماعية التي تركز على عوامل أخرى تُدخل في مجال الاقتصاد والطبقة الاجتماعية الأدوار السياسية.

هنا فإن التاريخ يتحرك «بفعل فاعل»، فلم يعد مهما أين تكون لكي تدير شركة عملاقة حيث يمكن الإشراف والمتابعة بالصوت والصورة على مدى دورة زمنية كاملة. ولذلك لم تعد هناك مشكلة في أن تنقل قيادات الشركات مقارها إلى مدن صغيرة قليلة التكلفة، فارتقت هذه، وصار لدى هؤلاء مزيد من الوقت لعائلاتهم، وخف السكان عن المدن العظمى. الأكثر جدة هي تلك العملية من الاندماج العالمي لعمليات إنتاجية واستهلاكية كاملة، فلم تعد هناك ضرورة لهجرة الهنود والصينيين إلى أوروبا وأميركا، بينما يستطيعون القيام بعمليات حسابية معقدة حيث يقيمون. والآن فإن صناعة الصحافة دخلت مرحلة الاندماج بين الأشكال الرقمية والفضائية التلفزيونية والمطبوعة بفضل كل العمليات القبلية والبعدية لعملية صناعة المعرفة على المستوى الكوني؛ حيث تجرى الترجمة لكل ذلك في كل الأوقات.

ستيف جوبز جعل «العولمة» والاندماج الكوني بين البشر حقيقة واقعة، وربما كانت الثورات العربية ذات طبيعة سياسية، ولكن من يعلم؟ فربما كان جوهرها الأساسي أكبر بكثير مما ظهر حتى الآن!!