مصر: التحدي الكبير قبل لحظة الانهيار

TT

مثلما كان الحال يومي 2 و3 فبراير (شباط) قبل تنحي مبارك، كان الهدف الاستراتيجي هو حماية تماسك الدولة المصرية بحدودها المعروفة وحماية العمود الفقري لهذه الدولة، المتمثل في القوات المسلحة، ما بعد هذا الهدف الاستراتيجي ندخل في تفاصيل وتكتيكات مهمة، لكنها تتضاءل أمام الرؤية الكبرى لدولة على شفا الانهيار.

ولكي نهيئ المناخ الذي يحمي هذه الدولة وعمودها الفقري قبل وقوع الكارثة، مطلوب ثلاثة إجراءات أولية، أولها: تأجيل الانتخابات البرلمانية المزمع فتح باب الترشح لها اليوم، فمن لا يستطِع إدارة مظاهرة من 3 آلاف شخص، لن يستطيع حتما إدارة انتخابات ستكون أكثر التهابا من أحداث ماسبيرو. حادثة ماسبيرو كانت مجرد بروفة لما سيحدث في الانتخابات، وأدعي أنها كانت بحجم مصغر، فالانتخابات ستذكي الفتنة ولن تكون طفاية حريق كما يظن البعض من أصحاب المصالح الضيقة. التفاصيل هنا طويلة وكثيرة، والأسئلة التافهة ما أكثرها من نوعية: كيف نطالب المجلس العسكري بالرحيل وأنت تطالب بتأجيل الانتخابات؟ كل من درس عملية إعادة بناء الأمم أو عرف شيئا عن أوليات نظريات الاستقرار يعرف أن الانتخابات ستكون كارثة متعددة الجوانب، وأنا على استعداد لمناقشة هذا بالتفصيل في مقام آخر.

الجزء الثاني من الحل، الذي أظن أنه أصبح عليه نوع من الإجماع الوطني، هو إقالة حكومة عصام شرف بكاملها واختيار حكومة ائتلاف وطني تمثل كل الوطن بأقباطه ومسلميه بشماله وجنوبه وعاصمته. أما الجزء الثالث فهو العمل على تنقية المناخ الثقافي والإعلامي من أدوات الشحن الطائفي وشحن الفلول وكل المؤثرات الصوتية التي تؤدي إلى تأجج المشاعر. ويبدأ الحل بخطاب للمشير محمد حسين طنطاوي، يكون خطابا قصيرا وواضحا، يعتذر فيه للشعب عما حدث ويتخذ الإجراءات الفورية لضبط الأوضاع.

إن ما أراه في مصر من حلول مطروحة كبيت العائلة ودخول شيخ الأزهر والبابا على الخط، فهو ليس شغل دول بل شغل مجالس عرفية في قرى الصعيد الجواني. القضايا الكبرى تحتاج منا إلى خيال كبير وحلول ترقى إلى مستوى الأزمة.. حديث رئيس الوزراء عن الأزمة ومعه كلام وزير إعلامه يدل على أن هؤلاء الناس مجموعة من الهواة ممن لم يتحملوا مسؤولية سياسية من قبل؛ فتكرار قصة الأصابع الخارجية والمندسين هي أكليشيهات لا تحل ولا تربط في أوقات الملمات الكبرى، ونحن بلا شك في ملمة كبرى وأمامنا كارثة في طريقها إلى الوقوع.

كل عاقل يعرف أن حادثة كنيسة القديسين في الإسكندرية في مطلع هذا العام «جابت أجل مبارك» كما يقولون بالعامية أو أزاحت مبارك ورجاله عن السلطة، بالعربي الفصيح، وأودعت الرجل العجوز وولديه في القفص. الفارق في الزمان بين حادثة كنيسة القديسين واندلاع ثورة «25 يناير» 24 يوما بالتمام والكمال، والفارق بين حادثة كنيسة المريناب في إدفو في محافظة أسوان، التي كانت في أول هذا الشهر، وما جرى من قتل العشرات في مظاهرات ماسبيرو وإصابة المئات، هو 9 أيام، والسؤال الآن: ترى ماذا سيحدث لجنين ماسبيرو عندما يكتمل الحمل في زمن لا تتجاوز فيه الثورات الأسابيع الثلاثة، عندما يبلغ الحدث يومه الـ25 كما في حالة القديسين؟ من الذي سيوضع في القفص؟ أو أي ثورة سنرى؟ وهل هي ثورة جياع هذه المرة أم فتنة طائفية تشتعل معها مياه النيل كما لو كان نهرا من زيت؟ وهل دخول البعض القفص لحظتها سيكون ثمنا مقبولا، أم أن موضوع وضع الناس في القفص سيكون مجرد لعب عيال «بعد خراب مالطة»؟

أما بالنسبة للمكان فالكل يعرف ولا يعي مغزى أن كنيسة القديسين في الإسكندرية في أول الوطن من جهة الشمال وكنيسة المريناب في أسوان في آخر الوطن من الجنوب، رمزية أرجو ألا تفوت على قومي وأبناء وطني. هذه الرمزية هي أن سكينا شقت بطن الوطن من آخره إلى آخره، من الإسكندرية إلى أسوان، ترى ما الصورة المعبرة عن الخطر الداهم أكثر من هذه الصورة؟

لدينا مجموعات ممن يظنون أنهم أغلبية وأعجبتهم كثرتهم، خصوصا يوم جمعة البث التجريبي للدولة الدينية منذ شهر، أقول لهؤلاء: إنه لا توجد في الوطن جماعة يربطها رابط قوي قوامها 10 ملايين متماسكة كاليد الواحدة، إلا الأقباط، هذا لو حشرناهم في الحيط. الإخوان أو السلفيون أو الجماعة الإسلامية أو الثلاثة مجتمعين لن تكون لهم هذه الملايين. المسيحيون المصريون الذين يصل تعدادهم إلى ما بين 10 و15 مليونا، سيكونون يدا واحدة لو نسي البعض منا قواعد التعايش والمواطنة. قد يبدو الأقباط الآن متفرقين حول قضايا أخرى، لكن الظلم الواقع عليهم يجمعهم. لو قرروا أن يلبوا النداء البدائي والغريزي عند كل إنسان للثأر لفعلوا الكثير من الخراب. فتمهلوا رجاء فالأرقام ليست كل شيء.. لو أراد الأقباط أن يدخلوا مصر في حرب أهلية لفعلوها، فالقط عندما تحشره في ركن في الحائط يخربش، كما يقول المثل العامي؛ لذا لا بد لنا أن نتحرر من أوهام الأغلبية، فالخراب لا يحتاج إلى أغلبية. فإلى المتكئين على وسادة الأغلبية الناعمة.. أفيقوا يرحمكم الله، رحمة بنا وبالوطن.

أزمة المجلس العسكري اليوم هي أنه واقع تحت مؤثرين، الأول يشبه ما كان يمارسه الأميركيون على سجناء غوانتانامو من إغراق وهمي، هذه الفئة تدعو المجلس لتسليم السلطة للمدنيين قبل الغرق. هؤلاء هم المستعجلون على امتلاك السلطة لأنفسهم. أما المؤثر الثاني فهو من صحافيي التلميع، هو مؤثر صوتي أشبه بالجمهور الوهمي الذي يستخدمه مدربو كرة القدم عندما يريدون أن يحفزوا فريقهم أثناء غياب الجمهور فيستخدموا جمهورا وهميا مؤيدا يصفق بحرارة. هذا الفريق يريد من المجلس مكاسب صغيرة ولا يهمه لو احترق البلد.