تونس.. من أتاتورك إلى أردوغان

TT

يبدو أننا في زمن لا شيء فيه يمر مرور الكرام. لا شيء من نتاج الصدفة والعفوية التاريخية. بل إن أكثر ما يقبض على الانتباه هو تلك الأحداث والمواقف التي تحفز الذاكرة على الاستفاقة والاستدعاء والتذكر الذكي والمقصود.

هذا ما أحدثته بالتمام والكمال زيارة رجب طيب أردوغان القصيرة مؤخرا إلى تونس، خصوصا من ناحية ما اكتسبته هذه الزيارة من أهمية مخصوصة لدى المشهد السياسي وأطراف المجتمع المدني ككل، وتحديدا بعض الأحزاب، وعلى رأسها حزب النهضة، التي تكشف مواقفها عن اعتبار هذه الزيارة بمثابة الحدث التاريخي.

وهنا قد يكون من المهم أن نقلب بعض رفوف الذاكرة التونسية قليلا، لأن في ذلك إضاءة لا غنى عنها لفهم الميولات الغالبة على توجهات بعض الأطراف المؤثرة في المجتمع السياسي في تونس ما بعد تاريخ ثورة 14 يناير (كانون الثاني) في 2011.

إن تأثير كمال أتاتورك على رؤية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كان قويا باعتراف بورقيبة نفسه، أو حتى من خلال تحليل توجهات رؤية بورقيبة للعلاقة بين الدولة والدين والمجتمع والدين. من ذلك أن خطب بورقيبة السياسية تزخر بمظاهر إعجابه بأتاتورك وانبهاره به. ناهيك عن طبيعة وخصائص الإصلاحات المؤسسية الكبرى التي كان جميعها في اتصال مباشر وعميق ووثيق بالدين، ونقصد بذلك إصدار مجلة الأحوال الشخصية وتحديدا البند الثوري القاضي بتحجير تعدد الزوجات وأيضا إلغاء التعليم الزيتوني وإلغاء المحاكم الشرعية وتعويضها بمحاكم مدنية إضافة إلى إلغاء الأحباس، والعمل على طمس الجاذبية الشعبية لشيوخ الزيتونة وعلماء الدين من خلال حملات تشكيك وتشهير، خصوصا على أثر مظاهرة القيروان التي تعد أول انشقاق بين المجتمع والدولة في عهد بورقيبة، وذلك لعدة أسباب لعل أقواها دعوته الشهيرة إلى الإفطار في رمضان. إذن، بين أتاتورك ومراحل بناء الدولة الوطنية الحديثة وشائج قربى وتواصل في الرؤى والنظرة إلى التقدم، وإن كانت تجربة بورقيبة أقل حدة وأكثر مرونة، حيث إنه رغم أنه كان يحلم ببناء دولة لائكية كما صرح بذلك قبل تاريخ استقلال تونس إلى صحيفة فرنسية، فإنه اكتفى بالتحديث وببعض مظاهر من العلمانية. ولا يخفى على المطلع على تجربة بناء الدولة الوطنية في تونس كيف أن السائس أقدم على تبني مواقف عديدة، تكشف عن مزايدات دينية بهدف سحب البساط من الإسلاميين خاصة بعد فشل تجربة التعاضد في الستينات وظهور الحركة الإسلامية في تونس، مما يفيد بأن سياسته لم تخل من مظاهر التواصل الموقفي مع ما هو ديني، ومن ثم فإن التوتر في علاقة بورقيبة بالدين لم يكن بالموقف السائد والثابت.

وها هي تونس بعد أكثر من نصف قرن من تراكم تجربة التحديث ومكاسبها، وتحديدا بعد ثورة 14 يناير من العام الحالي، تنقلب ولو رمزيا أو جزئيا على أتاتورك، مصافحة حفيدا من أحفاده المنقلبين عليه أيضا.

ولعل ما يستحق الإشارة أن رهان حزب النهضة على حزب العدالة والتنمية واستدعاءه نموذجا للنجاح والاعتدال والممارسة السياسية الموفقة في بلد لطالما هيمن على قراره السياسي والعسكري أبناء أتاتورك الأوفياء، مثل هذا الرهان تطغى عليه الشكلانية، بمعنى أن كلا من «النهضة» في تونس و«الإخوان» في مصر يحاولان أن يغنما من رمزية حزب العدالة والتنمية ونموذجيته واعتماده آلية من آليات الدفاع عن أحقية وجودهما سياسيا، وفي رحاب السلطة تحديدا. غير أن «الإخوان» في تونس ومصر يفتقران إلى براغماتية الأنموذج التركي الذي وإن كانت مرجعيته إسلامية ومنتصرة للحجاب وغيره فإنه وافق على بعض شروط الاتحاد الأوروبي، ومنها عدم تحريم الزنا. ولعل مثل هذا التنازل البراغماتي جدا والمتجاوز للمرجعية ذاتها التي يقوم عليها الحزب، يمثل دليلا على أن البون شاسع جدا بين «إخواننا» في مصر وتونس، الذين لا يزالون يناقشون ملف السياحة والمرأة وعدم خدش الأعمال الإبداعية لمقومات الدين الإسلامي، وبين «إخوان» تركيا، الذين يغضون الطرف عن قنوات «البورنو» في تركيا، واضعين نصب أعينهم حلم تركيا الدولة الإقليمية الكبرى.

فلا يكفي التشدق في الخطب بنجاح أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية بقدر ما يجب خوض الامتحان وفهم شروط اللعبة السياسية واستحقاقات البناء والديمقراطية والتقدم.. ساعتها فقط يمكن أن يتم استدعاء التجربة التركية بمفرداتها الصعبة قبل اليسيرة.