الثورة القبطية!

TT

في كل مرة تنبعث فيها أزمة ذات مسببات قديمة يتم التعامل معها على طريقة المفاجأة، وكأن ما حدث لم يكن متوقعا أو في الحسبان، وهذا جزء من إشكالية عامة فرضتها طريقة قراءة الأحداث السياسية بأدوات إعلامية، وتحديدا الفضائيات والإعلام الجديد الذي لا يفكر في الحدث أبعد من أرقام الضحايا والجهة المسؤولة ويوميات الحالة السياسية، وكأنها مقطوعة الصلة عما سبق.

الثورة القبطية هي جزء من مشروع الثورات الجزئية أو الثورات المضادة لمنطق ما بعد الثورة، حيث تشعر الفئات التي تشكل أقلية في مجتمع ما بعد الثورة، عادة، بأنها خارج اللعبة السياسية، مما يسبب لها احتقانا جمعيا، سرعان ما ينفجر في شكل صدامات عنيفة لم تكن لتحدث لو كانت الحالة السياسية مستقرة وإن في ظل حكم استبدادي أو غير ديمقراطي، ومن هنا فإن كثيرا من أجواء ما بعد الثورة هي مناخات محفزة لحروب أهلية مضمرة كانت تطبخ على نار هادئة، لكن انغلاق الحالة السياسية، كما في حال نظام ما قبل الثورة، جعلها مكبوتة، لأن الأطراف المتنازعة، ولنقل هنا في الحالة المصرية المتطرفين من الأقباط وخصومهم، هم مزيج من المتشددين فكريا بسبب حالة التصعيد والتعبئة ضد غير المسلمين، وهو خطاب معمم تتقاسم صناعته ظروف كثيرة، أبرزها تراجعات حادة في دور الأزهر والمؤسسات الدينية الرسمية المتسامحة إلى حد كبير مع الأقباط، لصالح خطابات متطرفة لديها أزمة ليس مع الأقباط فحسب؛ بل مع كل من يختلف معها من الليبراليين والعلمانيين واليساريين والإسلاميين المعتدلين والقائمة تطول.

وإذا كان يقال عادة إن ثمة أجواء مشحونة بين العالم الإسلامي والغربي، فإن ما لا يقال أن ذات الأجواء داخل المجتمعات العربية والإسلامية بين الطوائف الدينية والتيارات الفكرية المتصارعة على تسيّد الحالة الاجتماعية وصولا إلى الكعكة السياسية.

الخطابات المتطرفة تستخدم شعارات دينية كمحدد لهويتها الشخصية الاجتماعية، أكثر من كونها التزاما بتعاليم الدين بالمعنى الحقيقي له، كمرجعية لها ضوابطها ومحدداتها، وحتى آليات الفهم الذي عادة تنوء بحمله تلك الجماعات غير المؤهلة لأدوار سياسية، لكنها ناجحة اجتماعيا، وهنا مكمن الخطر بسبب بساطة محتوى خطابها وقوة انتشاره.

هذه الأجواء القلقة تشهد الآن تصاعدا محموما على مستوى ما يطرح من أفكار ومقالات، وأيضا على مستوى إدارة الغضب والغليان في الشارع المصري، ليخرج عن كل مشاريع الحوار التي باتت أقرب إلى الدبلوماسية العامة، ويدخل في سجالات الخصومة التي تحول كل قضية خاصة إلى قضية رأي عام، عبر آليات التأليب والتجييش التي تقودها قيادات افتراضية في الفضائيات وشبكة الإنترنت، أصبحت بشكل صريح وواضح تملك زمام المبادرة في توجيه العامة، وهو الأمر الذي أفرز واقعا جديدا على المجتمع المصري الذي تعددت فيه مصادر التلقي والتأثير بشكل يقترب من الفوضى.

وإذا كان احتقان الحالة الدينية في مصر ليس وليد اليوم، فإن حالة «الفراغ السياسي» التي باتت مرادفة للانفلات والفوضى وشيوع البلطجة، ليس بمعناها الاجتماعي بل حتى البلطجة السياسية، يمكن أن تقوض ما تبقى من مساحات مشتركة بين الأقباط وباقي مكونات المجتمع المصري؛ لأن حالة الفراغ السياسي ليست غياب النظام السياسي الحاكم أو الرئيس، بقدر ما هي تسييل لمفهوم «المواطنة» والحديث باسم «الوطن»؛ ليصبح مفهوما عائما يتم تشكيله بحسب المصالح السياسية الضيقة، وقد تسرقه جماعات متطرفة لا ترى الوطن إلا في إطار من يقاسمها خطابها السياسي والفكري.

القفز على مفهوم المواطنة الذي يشعر به الأقباط، وهم محقون في ذلك، هو نتيجة لحالة الفراغ السياسي الذي قد يطول، فمع كل ما يقال ضد الأقباط من عزلة وتضخيم لشعور الأقلية، ومحاولة استمالة أطراف خارجية، فهم أحد أكثر النماذج الأقلوية، فيما يخص المسيحيين العرب، في الاندماج والنجاح داخل مجتمعاتها، إذا ما قارنا ذلك بما لهم من تأثير وحضور في مرحلة ما قبل الثورة، بينما يمكن القول إنهم شبه غائبين في مرحلة ما بعد الثورة، ليس فقط عن التأثير، وإنما عن وعي التيارات السياسية الرئيسية التي لا تكاد تتحدث في رؤيتها السياسية المستقبلية إلا عن ملفات سياسة تتصل بالحكم أكثر من كونها تطمئن مكونات الشعب المصري، ومن أهمها الأقباط، حول المستقبل، ولو عبر مبادرات لتصحيح أخطاء النظام السابقة فيما يخص وضعية الأقباط ودور العبادة، وكل المسائل الفرعية التي يمكن وضع تصور حل لها يتعاضد فيه الأزهر مع البابا، وتدعمه باقي الأطراف السياسية، ويحميه المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية، هذه التصور للحل هو ضمانة مهمة كي لا تنزلق مصر في أتون مشكلة التمييز الديني الذي قد يفاقم من تردي الحالة السياسية، ويدخل البلد في نفق مجهول لا يمكن تصور عواقبه، فإذا كان السودان البلد الجار قد عاش أسوأ حالة ارتباك إثني انتهى بانفصال دام وتوترات ستترك آثارها طويلا في المنطقة، فإن ارتباك الحالة المصرية بملف الأقباط ما زال يمكن السيطرة عليه بحكم حالة الاندماج الناجحة في المكون المصري الاجتماعي، الذي استفاد من مرحلة القومية في صهر تلك الاختلافات.

ما يهم في مثل هذه السياقات المتوترة، هو التأكيد على ضرورة طرح الأسئلة الغائبة والمغيبة في محاولة لخلق نوع من التوازن في رؤية ما يجري على الواقع، ولدفع الأطراف الرسمية التي تملك القرار إلى أخذ زمام المبادرة في إدارة الحدث بشكل إيجابي، والآن نشهد تحركات حثيثة من قبل منظمات دولية وشعبية لمحاولة الضغط لاستصدار قانون يكفل تقنين مسألة الأقباط ودور العبادة والرموز الدينية.

هناك ثابت ومتحول في آلية تماس الثقافات الدينية؛ الثابت يجب أن يتأسس على الاحترام المتبادل، حيث يجب أن لا تمس مقدسات كل دين بسوء، وهذا ما يجب أن ينسحب على الأديان التوحيدية الكبرى، وأيضا على المذاهب والأقليات الدينية داخل الجماعة الواحدة، فليس من المنطقي أن نطالب الآخرين باحترام مقدساتنا ويتم الحديث بشكل علني عن أن موضوع «احترام الأديان» جريمة عقائدية، لأن تلك الأديان باطلة، كما يحدث الآن من قبل شخصيات متشددة بدأت تعي خطورة الجهود التي تسعى إلى تكريس تعددية دينية من هذا النوع، فهي ترى أن هكذا حقوق يجب أن تتمتع بها هي من دون الآخرين، ليست كشرائح مسلمة من ضمن نسيج عام، بل كفئات مأخوذة بالتميز والنقاء العقائدي تنتمي إلى تيار فكري محدود، لم يزل مع كل ما يمر به من علامات حالة الاحتضار، يدعي امتلاك الحقيقة الدينية المطلقة.

المشكلة الأخرى أن التيارات المعتدلة هي أيضا لم تتساءل بشكل شمولي حين تتحدث عن تحيز بعض الأنظمة الغربية ومظالم الأقليات، وهي أسئلة مشروعة ولها ما يبررها، لكن هذه التيارات في ذات الوقت يجب أن تسأل الخطاب المتطرف الذي شوه سماحة الإسلام بأفعاله الرعناء التي أساءت للصورة النمطية للإسلام أكثر من أولئك الذين لم يعرفوا منه إلا هذا النموذج السلبي، والحال أن أي معالجات لتلك الأزمات يجب أن تلتفت إلى الباعث والدافع وليس إلى النتيجة والمحصلة، كما يجب أن تقطع هذه التيارات المعتدلة - إذا كانت معنية بمستقبل الإسلام وصورته في العالم وليس بمكتسباتها السياسية، أو حجم التأييد لها في المجتمعات التي تعمل فيها - الطريق على المتطرفين، وذلك من خلال تدويل ملف احترام الأديان والمقدسات، وصولا إلى حالة من «التعايش» بين الجميع حتى داخل أتباع الدين الواحد، هذا التعايش الذي لا يعني التطابق في الآراء أو القناعات بقدر احترامها ومنحها حقها في الوجود، الأقليات الدينية قد يكون الملف الغائب الآن في حمى وتداعيات ملف الرسوم، لكنه حتما سيكون أحد أكبر الاستحقاقات التشريعية والحقوقية في حال تم الوصول إلى صيغة توافقية لمبدأ حقوق الأديان يقرها المجتمع الدولي.

المؤسف حقا هو غياب كثير من الأصوات الإسلامية المعتدلة من خارج المؤسسات الدينية الرسمية عن هكذا مبادرات، فهي لا تزال مترددة وخائفة من انعكاسات تحولاتها في عموم الخطاب الديني السائد الذي يختطفه منطق أصولي لا يتفهم أبدا التحولات الجديدة، فضلا عن أن يتعامل بحصافة مع الثقل السياسي الدولي الذي تتمتع به المملكة، الذي يحتم عليها أن تلعب دورها القيادي في المنطقة، وفقا للعهود والمواثيق الدولية العامة، وعلى رأسها الأمم المتحدة، مما هو مندرج في أبجديات فن العلاقات الدولية، وهذا ما يفسر تحول هذه «الصراعات الثقافية» من طبيعتها المعرفية إلى السجال السياسي الذي يستقطب حيثيات الواقع، ويسأل على ضوئها مفردات «الخطاب الديني والفقهي»، فقضية مركزية كالموقف من غير المسلمين وطبيعة العلاقة معهم، لم تعد قضية فقهية محضة تبحث في أحكام أهل الذمة، وإنما باتت قضية مركبة يتداخل فيها الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الأنثروبولوجي، فالعقد السياسي مثلا في مفهوم الدولة الحديثة قائم على أساس المواطنة بالدرجة الأولى، والتمييز الطائفي أو الإثني جريمة سياسية يعاقب عليها القانون، وعلى مستوى العلاقات الدولية فإن مفهوم السيادة من أكثر مرتكزات الحقوق الأولية لأي دولة معاصرة يكفلها لها القانون الدولي، الذي تسارع كل الدول إلى احترامه وتطبيقه، ومحاولة الضغط لتخفيف الاحتقانات التي تنجم بسبب أي خروقات لمبدأ السيادة أو التعايش السلمي.

[email protected]