الفرق بين الأديب والفنان

TT

أصر الأديب ألدوس هكسلي على أن يكتب من دون أن يرى الذي يكتبه.. فعل ذلك قبل أن يفقد عينيه.. وكانت حجته أن الإنسان قد اعتاد الكتابة.. فهو يعرف بالضبط كيف يكتب في أي وضع وتحت أي مصباح.. تماما كما يأكل ويشرب ويرتدي ملابسه في الظلام.. وكان في استطاعته أن يكتب ليلا.. ولما فقد عينيه كان يقرأ الكتب البارزة الحروف بأن يلمسها بأصابعه.. ثم يجلس أمام مكتبه ويرفع رأسه إلى أعلى ويضع يده على الورق ويكتب!

وهذا هو الفارق الوحيد بين الأديب والفنان.. فكل ما يخطه الفنان على لوحاته هو الهدف.. هو المعنى.. أما الكاتب فكلماته ليست هي الهدف.. وإنما الكلمات رمز إلى معنى.. الكلمات ليست هي المقصودة.. فالكلمات التي أكتبها تقوم المطبعة بنقلها على نحو آخر.. أما الذي يرسمه الفنان أو يخطه أو يظلله فهو المقصود.. هو الإبداع نفسه.. فأمام اللوحات الفنية نقف نتفرج على ضربة الفرشاة.. على بداية الخطوط ونهايتها.. على البقع الملونة.. بقع الظلال.. وعلى توزيع الدرجات.. فالخطوط في اللوحة لا ترمز إلى معنى.. وإنما هي المعنى.. على عكس الكلمات والعلامات الموسيقية فهي جميعا رموز إلى معنى آخر.. ولذلك لا يهتم الأديب كثيرا بشكل الكلمات أو حجمها.

والذي يقرأ ما كتبه الشاعر الرسام مايكل أنغلو، أو المفكر الإنجليزي كارليل، أو الروائي الإسباني سرفانتس، يخيل إليه أنهم مجموعة من الأطفال يقلدون آباءهم ولم ينجحوا.. فهم جميعا يكتبون باليد اليسرى.. في ما عدا سرفانتس الذي كان يكتب بيده اليسرى لكنه فقدها في الحرب فراح يكتب باليمنى التي لم يعتد عليها!

وليس أصعب على نفسي من أن أقرأ الذي كتبته.. وليس أقسى من مراجعته وتعديله.. فلا أكاد أمضي فيه بعض الوقت حتى أضيق به.. أتمنى أن أغيره وأعيد كتابته من أوله إلى آخره.. ولذلك ففي كثير من كتبي أخطاء مطبعية.. إما لأنني لم أحسن قراءتها عند إعادة طبعها.. وإما لأن الذين يقومون بمراجعتها قد أهملوا في ذلك.. أو تركوها على ما كانت عليه ظنا منهم أنها رغبتي!

وقد حدث أن بعث المفكر الإنجليزي توماس كارليل بكتابه عن «تاريخ الثورة الفرنسية» إلى الفيلسوف جون ستيوارت ميل.. فما كان من خادمة الفيلسوف إلا أن ألقت به في المدفأة!!.. وجلس المفكر كارليل يعيد هذا الكتاب من الذاكرة!

والمترجم الإنجليزي الكبير السير ريتشارد، الذي ترجم «ألف ليلة وليلة»، فوجئ بأن زوجته قد ألقت بنصف هذا الكتاب في النار!!.. وجلس يملي عليها الترجمة في أسبوع واحد!