الفيتو الروسي ـ الصيني يؤشر على العودة إلى الحرب الباردة

TT

بدأ رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين يوم الثلاثاء الماضي زيارة إلى بكين، بعدما كشف حق النقض المزدوج الذي لجأت إليه الدولتان الأسبوع الماضي في مجلس الأمن المستوى الجديد الذي وصلت إليه الشراكة بينهما، فالصين وروسيا لم يكن لهما مثل هذا الاهتمام المشترك بالشرق الأوسط.

لكن الشرق الأوسط هو جزء صغير من اهتمامات مشتركة أكثر حساسية تجمع البلدين. بوتين يتجه إلى الصين والعلاقات بين روسيا والغرب، وبالذات الولايات المتحدة، متراجعة، فيما العلاقة مع الصين قطعت أشواطا إيجابية كثيرة.

ففي منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي، وبعد انعقاد قمة منظمة «تعاون شنغهاي» في كازاخستان، سافر مباشرة إلى موسكو الرئيس الصيني هو جينتاو ليحتفل مع الزعماء الروس بمرور عشر سنوات على توقيع «معاهدة الصداقة» بين روسيا والصين. وخلال تلك الزيارة رفعت الدولتان من «علاقات الشراكة الاستراتيجية» إلى مرتبة «التعاون والشراكة الاستراتيجية الشاملة». وكانت موسكو تواقة لهذه الزيارة، لا سيما بعد «النعت بالخيانة» الذي وصفت به لعدم تنسيق مواقفها في الشؤون الدولية مع بكين.

أثناء الأزمة الليبية، غيرت موسكو فجأة سياستها من انتقاد العمليات العسكرية للحلف الأطلسي فوق ليبيا شهر مايو (أيار) إلى الانضمام إلى حملة إسقاط القذافي أوائل شهر يونيو، وهذا الموقف كشف الصين وجعلها تتعرض للضغوط الدولية.

كان الرئيس ديمتري ميدفيديف أعرب عن الموقف الروسي الجديد بعد قمة الدول الصناعية العشرين التي انعقدت في فرنسا، حيث قال: إن النظام الليبي فقد شرعيته وعلى العقيد أن يتنحى.

ردت الصين عبر أحد معلقيها بأن روسيا لم تكن أبدا طرفا موثوقا به. ففي جميع الأزمات الدولية الكبرى، حيث لها مصالح، تبدي موقفا متصلبا قبل أن تميل إلى الليونة. هي تفعل هذا للتغطية على صفقات سرية ودائما تضحي بالتعاون مع شركائها من أجل الحصول على مكاسب ذاتية.

الآن يذهب بوتين إلى الصين في وقت قررت إدارة الرئيس باراك أوباما إحياء مسائل خلافية بين البلدين، أنظمة الصواريخ الدفاعية، والمنافسة حول ثروات وممرات بحر قزوين، واستراتيجية «آسيا الوسطى الكبيرة». هذه المسائل تؤثر أيضا على المصالح الجوهرية للصين.

من المؤكد أن التعاون في مجال الطاقة يتصدر جدول أعمال بوتين، والطاقة هي العامل الأساسي لتسريع الشراكة الصينية - الروسية، لا سيما أن الخلاف على التسعيرة جعل صفقة بيع الغاز الروسي للصين (35 مليار دولار) تتعثر، ومن شأنها إعطاء زخم كبير لهذه الشراكة.

ما يقلق روسيا هو اكتشاف كميات غاز ضخمة في أذربيجان التي قد تعمل لصالح المشاريع التي ترعاها الولايات المتحدة على خط الأنابيب العابر لبحر قزوين، فتمكن بالتالي أوروبا من الوصول مباشرة إلى احتياطي الطاقة في المنطقة ويقلص من مستوى اعتمادها على الإمدادات الروسية. عندها ستزداد أوروبا قوة في التفاوض حول الأسعار مع روسيا، وتشك موسكو في أن واشنطن تدفع المجموعة الأوروبية إلى اعتماد سياسة موحدة في التعامل مع روسيا في مجال الطاقة.

لكن الأخطر من هذا في نظر موسكو هو نظام درع الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. ردة فعل إدارة أوباما على «حق النقض المزدوج» كان الإعلان عن أنها ستنشر هذه الصواريخ على الشاطئ الإسباني. (هذا يعني أن القرار كان متخذا قبل موعد التصويت على القرار المتعلق بسوريا في مجلس الأمن)، ويأتي بعد الإعلان عن موافقة رومانيا، وبلغاريا وتركيا على نشر الصواريخ المضادة للصواريخ.

موسكو تعتبر أن أوباما تراجع عن وعد قطعه قبل سنتين بأنه سيراجع نظام «درع الصواريخ الواقية»، بل هو يهدف الآن إلى استكمال الخطة بحلول عام 2020. الأخطر في نظر موسكو أن واشنطن ستجلب اليابان وكوريا الجنوبية إلى مظلة الصواريخ هذه، ثم إن الحلف الأطلسي وجه دعوة إلى الهند لتصبح شريكة في برنامجه الصاروخي. وردت وزارة الدفاع الهندية بأنها تدرس العرض، لكن بقيت أعينها تطرف في اتجاه الصين.

الصين تتعاطف في هذا الموقف مع روسيا، فهي تعتبر الأنظمة الصاروخية الدفاعية الأميركية محاولة لتحييد دفاعاتها، وترى أن عليها مع موسكو تحديد رد سياسي لتحدٍّ مشترك تواجهانه. أيضا تتداخل المخاوف الأمنية الروسية والصينية تجاه الخطوة الجديدة لإدارة أوباما بإحياء استراتيجية «آسيا الوسطى الكبيرة»، تطلق واشنطن عليها تسمية أخرى هي «طريق الحرير» وتريد توسيعها لتشمل حلفاء أميركا في أوروبا من خلال ربطها بإحلال الاستقرار في أفغانستان حيث يلعب الأطلسي دورا رئيسيا.

«طريق الحرير» تعتمد استراتيجية «آسيا الوسطى الكبيرة» التي وضعها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش وتهدف إلى إبعاد النفوذ الروسي والصيني عن آسيا الوسطى. وتنوي واشنطن بناء توافق دولي لصالح هذا المشروع في المؤتمر المقبل حول أفغانستان الذي سيعقد في إسطنبول (تركيا) في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني).

بكين من ناحيتها مهتمة بروسيا، وأيضا بمنظمة «تعاون شنغهاي» وذلك بسبب أفغانستان. بقي الأميركيون أم قرروا الانسحاب على مراحل، فإن حركة التمرد المتنامية فيها سيكون لها تأثير مباشر على جيرانها، وقد شهدت السنوات العشر الماضية تنامي الوجود الاقتصادي الصيني في آسيا الوسطى، حيث إن آلاف الكيلومترات من أنابيب الغاز والنفط عرضة للتخريب. ثم إنه مع بداية هذا العام والصين ترى «ممتلكاتها» الاقتصادية تتبخر في أجزاء كثيرة من العالم العربي وشمال أفريقيا.

موسكو من ناحيتها تشعر بضرورة التوصل إلى استراتيجية مضادة قابلة للحياة، وقد يكون اقتراح بوتين الأخير لتشكيل «الاتحاد الأوراسي» جزءا من الاستراتيجية التي يزمع تنفيذها بعد انتخابه رئيسا لروسيا. ردة فعل الصين على اقتراحه هذا الوقوف «جنبا إلى جنب». ثم إنها ترى أن روسيا تابعة لبوتين من مصلحتها. قد تكون هناك تحديات بينهما في المستقبل في آسيا الوسطى، لكنها متأكدة من أن الانبعاث الروسي لا يمكن وقفه، ومن مصلحة الصين الحفاظ على الشراكة الاستراتيجية بينهما.

عندما غيرت موسكو موقفها من الثورة الليبية فجأة، استاءت الصين وعملت على تحديد موقفها من ليبيا من أجل حماية استثماراتها وتقدر بـ19 مليار دولار، وفي أوائل يونيو أعلنت أنها بدأت اتصالات مع المعارضة الليبية.

لكن عند اختتام زيارة الرئيس الصيني هاو جينتاو إلى روسيا صدر بيان مشترك جاء فيه أن الصين وروسيا ستواصلان العمل معا في إطار مجلس الأمن الدولي (فيما يختص بليبيا آنذاك). لكن في شهر أغسطس (آب) استقبل نائب وزير الخارجية الروسي، ألكسي بورودافكين، السفير الصيني في موسكو مرتين بناء على طلب الأخير، في اللقاءين عاد الطرفان إلى تنسيق سياسة بلديهما أكثر فيما يخص سوريا، حيث اتفقا على معارضة بلديهما التدخل في الشؤون السورية.

ما يمكن أن يكون كشفه «حق النقض المزدوج» في مجلس الأمن هو العودة الحثيثة إلى مرحلة «الحرب الباردة». الدول الكبرى تعرف ما تريد، المجموعة الأوروبية انضمت إلى المعسكر الأميركي. ومجموعة أميركا اللاتينية انضمت إلى المعسكر الصيني - الروسي، لكن تبقى هناك دول «طيارة»، وإن كانت تحتل مواقع جيو-استراتيجية مهمة، وهي قد تتعرض للاستنزاف أولا، بشتى الأشكال والأنواع، قبل أن تحدد الدول الكبرى مصيرها وحجمها، وإلى أي معسكر ستنضم، وهذا «المخاض» سيحتاج إلى سنوات طويلة، لأن الصراع بين الدول الكبرى هو على «التراتبية» أيضا والنفوذ، وإلى أين يتمدد!