غيوم الربيع المصري

TT

الذي حدث في مصر يوم 25 يناير يوشك أن يكون معجزة رغم أنها كانت متوقعة لكل ذي بصر وبصيرة. وبعد ثمانية أشهر وبضعة أيام كيف نقرأ المشهد السياسي في مصر الآن.

وما أتحدث به عن هذا المشهد هو انطباعاتي أو رأيي الخاص. ولم أدّع في يوم من الأيام العصمة لرأيي وإن كنت أعتز به كل الاعتزاز. أقول دائما - وأدعو غيري أن يقول ذلك - رأيي صواب يحتمل الخطأ. ومن هذا المنطلق أكتب عما أشاهده من غيوم على ساحة المشهد السياسي في مصر هذه الأيام الصعبة والدقيقة بل والبالغة الحرج.

المشهد السياسي المصري اللاعبون عليه هم اللاعبون الرسميون من جهة واللاعبون الشعبيون من جهة أخرى.

أما اللاعبون الرسميون فيتمثلون أساسا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يتمتع وفقا لشرعية 25 يناير بالسلطات السيادية فهو الذي يمثل رئاسة الجمهورية وله سلطاتها وهو الذي يقوم بعمل السلطة التشريعية من حيث إصدار التشريعات ومن حيث الرقابة على أجهزة الدولة التنفيذية وعلى رأسها مجلس الوزراء الذي يتولى سلطة التنفيذ.

وتقديري - وهذا رأي أحاسب عليه أمام الله يوم القيامة - أن الجهازين الرسميين - المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الوزراء - يتمتعان بمنتهى حسن النية والإخلاص والتفاني من أجل العمل لهذا البلد. وليس عندي أدنى شك في رغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يتم مهمته في أقرب وقت معقول وأن يسلم السلطة للمدنيين الذين يختارهم الشعب. والشعب بعد ذلك حر في اختياراته. وكما تكونون يولى عليكم.

هذا جانب من الرأي ولكن حتى يكتمل الرأي - وأكرر أن هذه وجهة نظري - فإن الجانب الآخر يتمثل في محدودية الخبرة السياسية - وليس ذلك عيبا في ذاته فالعسكريون ليست مهمتهم السياسة وإنما مهمتهم سلامة البلاد وحفظ حدودها خاصة في هذه المرحلة الدقيقة حيث فوجئ الجميع بما حدث.

في 23 يوليو كان الذي حدث مدبرا ومعدا وله قيادته. أما في 25 يناير فقد تحرك الشارع حركة أشبه بالإعصار وأطاح بنظام حكم بائس وطاغ وفاسد ووجدت القوات المسلحة نفسها - مضطرة غير مختارة - في وضع بالغ الصعوبة إما أن تحمي البلد وحركة الشعب وإما أن تبقى في ثكناتها وكان الخيار الثاني يعني بالضرورة ضرب الثورة وتمكين الثورة المضادة منها في أيامها الأولى.

ولكن القوات المسلحة المصرية وجدت نفسها مضطرة للاختيار الأول وفي تقديري أنه كان الخيار الوطني السليم. اختارت أن تقف إلى جانب الشعب وأن تحمي ثورته وأعلنت منذ اليوم الأول في بياناتها «إننا لسنا بديلا عن سلطة الشعب» وكنت أحد الذين رحبوا بهذا المعنى وأبرزوه.

وجيء بمجلس الوزراء. عدل بعد أسبوعين بتغيير رئيس مجلس الوزراء وبقاء أغلب الوزراء ولا شبهة عندي في إخلاص ورغبة أعضاء مجلس الوزراء ورئيسه في العمل من أجل هذا البلد وإقالته من عثرته.

ولكن ظهرت محدودية الخبرة السياسية في الأيام الأولى التي أعقبت سقوط النظام السابق.

وجرت استشارة بعض المخلصين الأوفياء في غير تخصصاتهم وأخذ برأيهم. وليس أدل على ذلك من التخبط الدستوري الذي حدث في الأيام الأولى وما زال نتيجة رأي هؤلاء المخلصين الأنقياء ولكنهم غير متخصصين فيما سئلوا فيه وكانت النتيجة ما حدث. استفتاء. ثم إعلان دستوري ثم تعديل. ثم إعلان دستوري. وقانون للانتخابات ثم تعديل له ثم تعديل للتعديل وهكذا سارت الأمور الدستورية في اضطراب شديد.

كان الأولى وكما قال المتخصصون في القانون الدستوري من كبار الأساتذة أن نبدأ بانتخاب جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور الجديد ويتم الاستفتاء عليه ويدخل حيز التنفيذ ويحكم مسار المرحلة.

ولم يكن ذلك معجزا ولا صعبا. فالميراث الدستوري المصري بدءا من 1877 مرورا بـ1923 ثم 1971 ولا أغفل مشروع الدستور الذي أعد عام 1954 ولم ير النور رغم أنه خير ما أعد من مشروعات بل ولعله لم ير النور لهذا السبب - هذا الميراث الدستوري الذي يعرفه ويدرسه أساتذة القانون الدستوري كان كفيلا بتمكين الجمعية التأسيسية من إنجاز مشروع الدستور في مدة لا تتجاوز شهرين على أكثر تقدير وبذلك تبدأ السلطة المنشئة - وهي واضعة الدستور والتي تسمى السلطة المؤسسة - وتحدد خط السير وبوصلة الطريق بدل هذا الاضطراب الذي أدى إليه الرجوع إلى غير المتخصصين حتى وإن كانوا من ذوي النوايا الحسنة والسمعة الطيبة.

هذا عن الجانب الرسمي من المشهد السياسي.

أما الجانب الشعبي فقد بدأ رائعا وعظيما. في الأيام الأولى 25 يناير وما بعده - أفرزت مصر أنبل ما في شبابها من رغبة عارمة في التغيير نحو الأفضل. ووقف القبطي إلى جانب المسلم والمحتجبة إلى جانب الكاشفة ومن يلبس «الجينز» إلى جانب الملتحي جميعا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. وفي أيام قليلة استطاع هذا الزخم الجبار أن يسقط نظاما طاغيا باغيا لم يكن يستند إلى إرادة الشعب ولا إلى أي قاعدة في قانون. كان يستند إلى قوة القهر ممثلة في أجهزة الشرطة وفي مقدمتها جهاز أمن الدولة ومستندا إلى الخضوع الكامل لأميركا وربيبتها إسرائيل ضاربا بمصالح الشعب المصري كلها عرض الحائط.

وأنجزت الثورة أولى مهامها وكان أمامها بعد ذلك مشوار طويل. وحدث ما حدث في كثير من الثورات مما لم نكن نريد له أن يحدث.

تفرق زملاء الأمس فرقا وشيعا وأحزابا قد يكونون جميعا مخلصين ولكن المرحلة لم تكن تحتمل هذا التشرذم. عشرات الائتلافات وكل يدعي وصلا بليلى. وليلى تنكرهم ولا تعرف وجوه أغلبهم. وبعد الائتلافات ظهرت تحالفات. وسمح بقيام العديد من الأحزاب. وظهرت تحالفات بين أحزاب وتصدعت تحالفات بين أحزاب أخرى.

وكل يوم خبر جديد عن انشقاق ثم اتفاق وهكذا مما أربك الناس وأشعرهم بأن الذين يتحركون يتحركون بغير بوصلة تهديهم.

هذا هو حال الشارع السياسي بعد ثمانية أشهر من حركة شبابية أبهرت العالم كله.

أما على مستوى مجلس الوزراء فهذا الوزير يقول مصر مهددة بالإفلاس ووزير آخر يقول إن مصر بعيدة عن الإفلاس ومع ذلك يقول نفس الوزير - وهو رجل عالم - إن البورصة المصرية خسرت 10 مليارات جنيه خلال أربعة أيام. وصحيفة كبرى تقول في صفحتها الأولى «تضارب تصريحات الحكومة حول إفلاس مصر دليل على الفوضى».

هذا هو مشهد المسرح السياسي في مصر الآن وهذا هو الذي يدعوني إلى أن أطلق على عنوان هذا المقال «غيوم الربيع المصري» إذ لم نرد أن نقول للأسف المر: هل انتهى الربيع وجاء الخريف؟

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* نائب رئيس

الوزراء المصري السابق