التكتلات الحزبية في المغرب

TT

يستوجب الدستور الجديد الذي أقره المغاربة بالتصويت مطلع الصيف الماضي انبثاق رئيس الحكومة من صناديق الاقتراع، وهذا يعني أن المنصب يؤول بقوة النص التشريعي الأسمى، إلى الحزب السياسي الذي يحتل صدارة الترتيب في الانتخابات التشريعية. وبموجب الدستور المذكور يكون على رئيس الحكومة المختار أن يقترح على الملك فريقا حكوميا يكون مسؤولا أمامه، من جهة أولى، وأمام البرلمان، بغرفتيه، من جهة ثانية. وحيث إنه لا تفصلنا عن الانتخابات المقبلة سوى فترة زمنية تقل قليلا عن الشهر ونصف الشهر، فإن من الطبيعي أن تشهد الساحة السياسية في المغرب حيوية تحضيرا للانتخابات (اقتراحا للمرشحين، وتزكية، وتأهبا لخوض الحملة الانتخابية، وتجنيدا للقاعدة الحزبية.. وبالتالي الانخراط في الممارسات الديمقراطية المألوفة). غير أن الشأن في المغرب يكتسي سمات مختلفة، بل ربما كانت مغايرة للمعهود في الديمقراطيات العتيقة، وذلك لأسباب نرى من المفيد الوقوف عندها، أو عند أكثرها أهمية ودلالة على الممارسة السياسية في المغرب، بل ربما كانت تلقي أضواء تكشف عن جوانب من الوجود السياسي في عالمنا العربي إجمالا. ربما وجب أن نذكر، مرة أخرى، أمرا ما نفتأ نقوله فنكرر القول فيه: ضعف الاهتمام بالشأن العام أو ما ينعته الدارسون والمحللون السياسيون في المغرب بظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية (والعلامة الكبرى على ذلك ضعف المشاركة في العمليات الانتخابية في المغرب، فنسبة المشاركة متدنية جدا والمؤشرات الحالية لا تبشر بحدوث تحسن كبير في هذا المجال، وذلك لأسباب موضوعية قابلة للملاحظة والفهم). والسبب الثاني هو الغموض الشديد في المشهد السياسي في المغرب، وهو للأسف غموض لا تبشر القرائن بقرب تبدده، ولا تدل الممارسات الحزبية على إرادة صادقة في إزالته، بل ربما كان العكس هو الصحيح، وفي مقالتنا اليوم سنقف على مظاهر قوية تعزز ما نصدره من حكم سلبي وما نعبر عنه من رأي قد لا يخلو، في نظر البعض، من نظرة تشاؤمية إن لم تكن مشككة أو عدمية. أما السبب الثالث (والأخير من الأسباب الكبرى التي نشير إليها) فيرجع إلى الكثرة الكثيرة في الأحزاب السياسية في المغرب (أكثر من ثلاثين حزبا) مع التشابه الشديد في الخطاب السياسي والجنوح إلى الكلام الفضفاض الذي لا يفيد شيئا والارتكان إلى خطاب التسوية والمهادنة، وبالجملة فالمواطن المغربي لا يتبين، أحيانا كثيرة، إن لم نقل في الأحوال كلها، مواطن الاختلاف بين حزب سياسي وآخر، ومن ثم فإن العزوف السياسي يصادف مرتعا خصبا ومناخا مناسبا.

يجدر بنا، إضافة إلى ما تقدم، أن نسجل الملاحظة العامة التالية: إن من سمات المشهد السياسي في المغرب كذلك، بل ما يصح القول فيه إنه قد أصبح خاصية ملازمة وقاعدة مطردة يعرفها المغرب عقب كل دورة من دورات الانتخابات التشريعية، والقصد بها الضعف الشديد في الفرق البرلمانية من الناحية العددية، مما يجعل من المستحيل على حزب سياسي بمفرده، بل وعلى تكتل سياسي تجتمع فيه الشروط الدنيا الضرورية من المعقولية والانسجام أن ينتهي إلى تشكيل أغلبية يكون في مقدورها تكوين حكومة. ما ألفه المغاربة، سنوات كثيرة، هو صورة الحكومة التي تظل دوما في افتقار شديد إلى الانسجام المذهبي، وبالتالي فإن الحكومة القوية القادرة تظل في حكم التعذر، إن لم نقل الاستحالة، لا بل إن المعارضة في نطاق تسويات لا تتوافر لها دوما صفة الوضوح، تغض الطرف أو تمتنع عن التصويت حتى يكون في الإمكان المصادقة على بعض القرارات. ولعل من الطرائف عندنا وجود ما يسمى في العمل السياسي في المغرب بالمساندة النقدية أو المعارضة النقدية.

ينتج عن هذا ما كان يتم، إكراها وسعيا إلى تكوين أغلبية بأي ثمن، من تكتلات سياسية عجيبة غريبة عملت، بكيفيات شتى، على تعميق داء العزوف السياسي. أما الآن، في ضوء المقتضيات الجديدة التي يفرضها الدستور الجديد فيجعل للحكومة صورة مختلفة عن الصورة السابقة ويجعل لرئيس الحكومة مهام جديدة ويحدث توسعا في مهام البرلمان، في ضوء هذه الأمور كلها تطرح مسألة التكتلات السياسية في صيغة جديدة، ما دامت قرائن الأحوال تدل كلها أنه لكي يكون في وسع تشكيل سياسي واحد أن ينتهي إلى تشكيل حكومة أغلبية، على غرار المألوف في الديمقراطيات الغربية.

في الديمقراطيات العريقة لا يعقل ولا يتصور ائتلاف سياسي أو اجتماع لأحزاب إلا مع توفر حدود دنيا لا يمكن التفريط فيها: حدود دنيا من الوضوح الآيديولوجي، فمن المضحك والباعث على الاستنكار وعدم التصديق أن يتم الإعلان، على سبيل المثال، عن تكتل سياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية أو عن اتحاد سياسي بين العمال والمحافظين في بريطانيا. ذلك مما لا يقبله العقل الغربي ولا يفهمه، بل هو مما لا يعقل في السياسة مطلقا. ذلك أن الحياة السياسية الطبيعية هي مجال الصراع بين برامج مختلفة، بل ومخالفة لبعضها البعض، إذ لو لم تكن كذلك لما كانت الحجة أصلا إلى الحديث عن «أحزاب». يصح القول، في عبارة أخرى، إن إلغاء الاختلاف في البرامج والرؤى السياسية إلغاء للسياسة ذاتها، وهذا من نافلة القول، بل من المسلمات والبديهيات. لكن الأمر ليس في الأحوال كلها كذلك في العالم العربي، ولعل في الوقفة التالية عندما شهدته الساحة السياسية المغربية تأييدا لما نسوق من ادعاء.

في الأسبوع الماضي أعلن في المغرب عن تكوين تكتل حزبي تحت مسمى «التحالف من أجل الديمقراطية». في هذا التكتل الحزبي صور من الغريب والعجيب ومادة للتندر عند الملاحظ الغربي ومثال لما كان غير مفهوم عند دارس العلوم السياسية، وهذه بعض من تلك الصور. الأولى، أن النواة الأصلية للتكتل تشكلت من رباعي: حزبان في المعارضة (الاتحاد الدستوري، الأصالة والمعاصرة) وحزبان في الأغلبية الحالية (الحركة الشعبية، التجمع الوطني للأحرار). الصورة الثانية للعجائبية والغرائبية أن الأحزاب الأربعة التي التحقت بالتكتل الرباعي، فيغدو التكتل ثمانيا هي كما يلي: ثلاثة أحزاب من اليسار الاشتراكي، بل من اليسار الأقصى (اليسار الأخضر، الحزب العمالي، الحزب الاشتراكي) وحزب رابع، إسلامي انشق قبل سنوات قليلة عن حزب العدالة والتنمية، يعني حزب ينتمي إلى ما تعتبره الأحزاب السبعة الأخرى «خطا أحمر» لا يجوز الاقتراب منه وجهة لا ينبغي، أيا كانت المبررات التعامل معها. أود، قبل الوقوف عند دلالة ما تم الإعلان عنه، أن أشير إلى أمرين اثنين. أولهما أن مجموع المقاعد النيابية للأحزاب الأربعة التي التحقت بالتكتل الرباعي هي أقل من عشرة في غرفة برلمانية يتجاوز أعضاؤها ثلاثمائة نائب برلماني. وثاني الأمرين أن أحد الأحزاب الأربعة ليس له في البرلمان أي تمثيلية، وأن آخر منهما ممثل بنائب برلماني واحد، ولعل في الإشارتين ما يغني عن القول في أثر الأحزاب الأربعة في الحياة السياسية في المغرب.

غير أن ما يسترعي الاهتمام حقا ويفيد الكثير عن العمل السياسي الحالي، عند مجموعة عددية كبيرة من الأحزاب المغربية، هو التبريرات التي قدمها زعماء الأحزاب الثمانية المشار إليها، في الندوة الصحافية الكبرى التي تم فيها الإعلان عن ميلاد الائتلاف أو في حوارات مع الصحافة. أسوقها دون تعليق، أسوة بالصور التي تنطق بذاتها. يقول رئيس أحد الأحزاب في التكتل الرباعي الأصلي والناطق باسم التكتل الجديد، إن «القطب الذي ينبغي تأسيسه هو الذي يعكس كل تعبيرات المجتمع المغربي حتى يكون له معنى». (كذا). ويصرح زعيم حزب آخر، ببساطة تامة «ليس هناك أي تناقض في تحالف أحزاب الغالبية وأحزاب المعارضة». (إي والله). بينما يقرر زعيم أحد الأحزاب الاشتراكية في التحالف الثماني «لسنا ضد أحد إلا المحافظين الذين نعتبرهم خطا أحمر»، ثم يقول الزعيم اليساري في نفس الحوار الصحافي «الأسس القديمة التي تعتبر الآيديولوجية المحدد الأساسي للتحالف» قد أصبحت متجاوزة.