في ما يتعدى اليورو

TT

حتى الآن لا يزال نطاق تفاعل أزمة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، محصورا في إطار الدول الأوروبية الموقعة على معاهدة ماستريخت، ولكن تداعياتها المالية والاقتصادية خارج حدود القارة القديمة بدأت تلوح في الأفق.

رئيس البنك المركزي الأوروبي (المنتهية ولايته)، جان لوي تريشيه، وصف هذه الأزمة بأنها «أخطر أزمة واجهتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية»، ورئيس الحكومة البريطانية (غير المرتبطة بمعاهدة ماستريخت)، ديفيد كاميرون، حذر الدولتين «الركن» في المعاهدة، ألمانيا وفرنسا، بأن حل أزمة اليورو لم يعد يحتمل الانتظار أكثر من أسابيع معدودة..

لو كانت وحدة أوروبا المالية وحدها على المحك لجاز اعتبار الأزمة محصورة بدول اتفاق ماستريخت، ولكن تقاطع المعطيات المالية والاقتصادية للأزمة مع مستقبل «الحضور» الأوروبي السياسي في العالم، يجعلها أزمة تتجاوز حدود القارة القديمة لتطال تأثيراتها العالم العربي أيضا.

قد تكون الخطيئة المميتة التي ارتكبها الاتحاد الأوروبي استعجاله التوسع شرقا قبل أن تصبح دول الشرق الأوروبي – واليونان في عدادها – مؤهلة لدخول تجربة وحدوية متعددة القوميات، محورها الأساسي محض مالي، فكان أن أسفرت تجربة هكذا اتحاد عن فشل إقامة «وحدة» مالية متناسقة في إطار «اتحاد» سياسي هش، لم يرق يوما حتى إلى مستوى الاتحاد الكونفيدرالي. وبالفعل ظلت السياسات المالية لدول الاتحاد وأنظمتها المصرفية تتخذ «إفراديا» - كي لا نقول قوميا – فيما اعتبرت آلية الإغاثة المالية مسؤولية أوروبية جماعية. وعليه قد لا يكون مستغربا أن يصل الاتحاد الأوروبي إلى حافة الانهيار، ويظل، مع ذلك، عاجزا عن تجييش الإرادة السياسية الموحدة للاتفاق على حل شامل لأزمته المالية.

إعادة الاستقرار إلى اليورو – وعبره إلى الاتحاد الأوروبي - تتطلب سياسة تقشف مالي وتنسيق ضريبي صارمة ومؤلمة. إلا أن نجاح هذه السياسة سيكون المحك العملي لقدرة اليورو على الصمود كعملة دولية قوية، وقدرة الاتحاد الأوروبي نفسه على تبني منحى مالي فيدرالي يعزز، على المدى الطويل، تماسك الاتحاد ونفوذه.

رغم ذلك، لا يجوز، بأي شكل من الأشكال، التقليل من الدور السياسي الذي لعبته العملة الأوروبية الموحدة والسوق الأوروبية الواحدة، في تبديد شبحي الشوفينية القومية والنزاعات المسلحة بين دول القارة الأوروبية. وهذان الإنجازان كافيان، بحد ذاتهما، لأن يثبتا للأوروبيين أن قدرتهم على التحرك الجماعي المنسق لن تساعد على حل أزمتهم المالية فحسب، بل أيضا على حفظ ثقلهم السياسي على الساحة الدولية المتبدلة.

وهنا بيت القصيد بالنسبة للعالم العربي، ففي وقت يزداد فيه انكشاف «الخنوع» الأميركي لرغبات إسرائيل، ويبرز فيه بوضوح وجه روسيا الأوتوقراطي في تعاملها مع «الربيع العربي».. تزداد أهمية الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية كمركز ثقل سياسي دولي مواز - إن لم يكن موازنا - للنفوذين الروسي والأميركي في الشرق الأوسط. وهذه الأهمية لا تنبع فقط من الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية الطويلة بين الجانبين، بل أيضا من تعاطف الكثير من دول الاتحاد الأوروبي مع القضايا العربية.

مؤسف أن العالم العربي ليس في وارد تقديم دعم ما للاتحاد الأوروبي بعد سنوات من فشل اقتراح اعتماد سلة عملات (بينها اليورو) في تعاملات سوق النفط. ولكن تجاوز الأوروبيين بسلام لأزمتهم المالية تطور يصب في مصلحة العالم العربي السياسية والاقتصادية.. فبقدر ما يمثل تعزيز الحضور الأوروبي السياسي عامل توازن على الساحة الدولية، يمثل استمرار اليورو كعملة دولية قوية كسرا لاحتكار هيمنة الدولار على احتياطيات العملات الرئيسية في العالم.