مسلسل مصري طويل

TT

فلنتذكر قليلا بعض ما حدث في مصر: قبل سقوط مبارك بقليل اختفى رجال الأمن في ظاهرة شيطانية لا تفسير لها حتى الآن. وبدأ انهيار الأمن وظهور البلطجية والحرامية والزعار من كل الفئات. وبعد تنحي مبارك بقليل أقدم عدد من الثوار في عدد من المواقع على مهاجمة مقار أمن الدولة وإحراق وثائقها. وأمن الدولة في العالم العربي سيئ الذكر رديء السمعة معيب الصيت. لكن بعد سقوط الأمن العادي وأمن الدولة ازداد عدد الفرحين بذلك وكبرت مخاوف الأوادم. وهكذا لم يبق سوى الجيش والقوات المسلحة. وذات يوم ظهر رئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق في برنامج تلفزيوني مع الروائي المعروف علاء الأسواني. ودار جدل بين الاثنين، انتهى باستقالة أحمد شفيق؛ لأن أحدا لا يريد أن يزعج خاطر الثورة.

في نظر الزعار، من كل الفئات، وفي نظر المتربصين، من كل الأحزاب، كان ذلك هدية خلف هدية: سقوط الأمن وإحراج العسكر وإرباكهم واحتجازهم في قفص اسمه المجلس العسكري يحاصره كل أسبوع مليون متظاهر من كل الفئات والنوعيات. اختفى وائل غنيم ومخترعات ستيف جوبس من الجيل الرابع، وظهر في الميدان رجال القرن الرابع. ولم نعد نرى أو نسمع رجال دولة مثل محمد البرادعي وعمرو موسى بل صرنا نسمع ثوارا لهم أجنحة مثل الثورة.

دونت غير مرة إعجابي بعلاء الأسواني روائيا وناشطا سياسيا. لكن عندما رأيت أحمد شفيق يستقيل بسببه، شعرت بالخوف. فرسم الصورة الدرامية لسطح عمارة يعقوبيان والدور الأول فيها لا علاقة له بمعرفة ما يحمي أسس الأهرامات وجسور النيل. وعندما ينهزم أحد كبار أعمدة القوات المسلحة في حوار تلفزيوني، حرصا على عدم إزعاج الثورة واتهام العسكر بالانحياز أو العدائية، فهذا دليل مقلق. وهو مقلق ليس لأن قانون الطوارئ أفضل وسجون القمع أفضل وصحافة فرقة الببغاوات أفضل. هذا مقلق؛ لأن الذي اؤتمن على سلامة مصر وأمن المصريين، هو الضابط لا الكاتب المسرحي.

هناك مثل لاتيني يقول «حرب الجميع على الجميع». وأعتقد أن الفيديو الذي يصور جنديا يرمي قبطيا بالرصاص رافضا أوامر الضابط، هو نتيجة طبيعية تلقائية متوقعة، ليس للثورة ولا لمبادئ الثورة بل لشطط الثورة وتخالط الثوار ودخول قوى طفيلية وخروج قوى بنَّاءة وأساسية، وبسبب التسلسل المريع الذي حدث: هرب الأمن، ثم سقوط أمن الدولة ثم استقالة أحمد شفيق كرمز مما وصل إليه الحال: لا يريد ضابط أن يحسب على ثقافة موقعة الجمل.

ولكن من إذن يضمن مصر في هذه المرحلة الانتقالية إذا لم يكن هناك من يحكمها؟ ومن يمكن أن يحكمها إذا كان كل أسبوع يفرض الميدان مشروع حكم جديدا؟ ومن يقتنع بطاقات وقدرات وشجاعة رئيس الوزراء إذا كان يستقيل كل يوم ثلاث مرات؟ وما نفع أن تعين حازم الببلاوي وزيرا للمال إذا لم تستطع حمايته؟ من سيتخذ القرار في مصر؟ تلك هي المأساة.