مفهوم الدولة الإسلامية أيضا.. بسط القول في «الشورى»

TT

كان «أصل الشورى» - من الأصول التي تقوم عليها الدولة الإسلامية - هو ما انتهى إليه مقال الأسبوع الماضي ذو العنوان «تحرير مفهوم الدولة الإسلامية وتأصيله».. ولقد رأينا أنه من موجبات «الإشباع المعرفي»: بسط القول في قضية الشورى وهو إشباع تهتف به مقتضيات شتى: مقتضى فقد التقصير في الاجتهاد في الشورى.. ومقتضى ما ترتب على هذا التقصير الفادح القادح من فتنة المسلمين بما عند الآخرين من نظم سياسية، منها نظام أو نموذج الديمقراطية، ولا سيما المفهوم الغربي لها.. ومقتضى الإلحاح على ذوي العلم والعقل والقدرة على الاجتهاد أن يسارعوا إلى مغفرة من ربهم بمباشرة الاجتهاد الخصيب في الشورى لئلا يكونوا سببا في فتنة الناس بشعارات ازدادت ضغطا على عقولهم وضمائرهم في ظروف ما سمي بـ«الربيع العربي». ولئلا تتكرر أزمة «ما بعد الاستقلال» في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ذلك أن الأنظمة السياسية التي أعقبت الاستقلال عن الاستعمار لم يكن لديها «رؤية سياسية حضارية واضحة متكاملة» للبناء والنهوض سواء على الصعيد الاجتماعي والثقافي والفكري، أو على الصعيد الاقتصادي والسياسي، بمعنى أنه لم يحصل «اجتهاد وطني» جاد وخصيب في هذه المجالات، وعندئذ مالت تلك الأنظمة ميلا عظيما إلى ما هو أسهل. مالت إلى استعارة نموذج الديمقراطية الغربية بتفاصيلها كافة، أي استنسختها استنساخا كاملا. ولقد ظن ظانون أن «الشكل الديمقراطي» المجرد ينتج - تلقائيا - الحلول السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وفق المقولة العجيبة «الديمقراطية دواء لكل داء».

فماذا كانت النتيجة بعد ذلك كله؟ فشلت الديمقراطية المستنسخة، ووقع تخبط سياسي واجتماعي واقتصادي بلغ حد الأزمة.. هنالك ماج الوطن العربي بموجبات الانقلابات العسكرية التي فشلت هي الأخرى في التنمية الاقتصادية، وفي التعامل بعقلانية مع الحريات العامة، كما فشلت في الدفاع عن الأوطان، وفي ردع إسرائيل (معظم هذه الانقلابات سوغ وجوده بتحرير فلسطين).. وبعد الانقلابات العسكرية وتوابعها الاستبدادية، اهتزت الأرض العربية بانتفاضات تبحث عن حلول لأزماتها المتعددة والمركبة. وقد نشأ عن هذا المسلسل الخائب سؤال ضخم جدا: استعمار فاستقلال فديمقراطية شكلية فانقلابات عسكرية فانتفاضات شعبية.. ثم ماذا؟ إن الانتفاضات الشعبية الراهنة اكتنفها من الاضطراب والتيه ما اكتنف مرحلة ما بعد الاستقلال، فهل ستتكرر الحلول ثم تتكرر الانقلابات.. إلى آخر المسلسل الذي يتجه خطه البياني إلى أسفل دوما؟

إن هذه الأوضاع السياسية العربية المعتمة المأزومة تتطلب اجتهادا فكريا سياسيا مبدعا وخلاقا ينتهي إلى وضع استراتيجية: سياسية اجتماعية ثقافية إعلامية حضارية تخرج المجتمعات العربية من دوامات ما بعد الاستقلال إلى فسحة استقرار حقيقي، وتنمية عميقة وجادة وصاعدة بلا انتكاس، وحراك سياسي راشد ونزيه، وثقافة بناء ونهوض واستبشار لا ثقافة عجز ونواح وقنوط.. ومن مفاتح الاجتهاد المطلوب، الاجتهاد في استنباط صيغة سياسية جديدة (قد تنفع العالم كله) تجمع بين العدالة الاجتماعية والاقتصاد الحر، وبين حقوق الإنسان ومسؤولياته، وبين الحرية والأمن، وبين الوطنية والعالمية.

للذين يؤمنون بالشورى نقول: إن مفهوم الشورى لا يستقيم ولا يصح إلا إذا أحطنا بما يلي:

1) أن تشريع الشورى تنزل في مناخ عالمي يسوده الاستبداد السياسي على الأصعدة الوطنية، وفي العلاقات الدولية. فالمجتمعات المعاصرة لمجيء الإسلام كانت تنظر إلى حكامها على أنهم آلهة، أو أنصاف آلهة، أو على الأقل تعد أعمالهم وتصرفاتهم «مقدسة». ومن هنا كانت «الشورى» في الإسلام «نهجا تقدميا» في عصور تأليه الحكام، واختزال إرادات الشعوب في إراداتهم.

2) أن البيئة العربية «مهد الإسلام الأول» لم تكن فيها حكومات مركزية مستبدة، ومن هنا كان العرب أحرارا في الغالب، ولكنها حرية تشبه التسيب والانفلات وفقدان النظام العام.

3) كان سادات العرب يحبون التعبير عن الرأي (وقد استمر هذا النزوع بعد إسلام الصحابة. مثال ذلك: أن القرآن سجل آراء عمر بن الخطاب في مقام إبراهيم وغيره كما سجل آراء وجدل خولة بنت ثعلبة في أول سورة المجادلة).. يُضم إلى ذلك أن العرب كانوا لا يقبلون بأن تبرم أمورهم دونهم. ولا يقبلون - من ناحية أخرى - الفظاظة من أحد مهما كان شأنه، ولو كان نبيا رسولا. ولذلك جمعت آية واحدة هاتين الخاصيتين في الشخصية العربية القحة: خاصية إبداء الرأي، وخاصية عدم تقبل الفظاظة. وهذه الآية هي آية آل عمران «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر».. نعم. إن الله جل ثناؤه شرع الشورى بحكمته القاضية بالتكامل في شريعة الإسلام. ولكنه شاء - سبحانه - أن ينزل القرآن على أسباب. ومن هذه الأسباب: محبة العرب للتعبير عن الرأي، وتداول الشورى، وكراهيتهم للاستبداد والفظاظة.

إن هذه الاعتبارات الثلاثة مفتاح لـ«المفهوم الصحيح للشورى».. أما المضامين الأساسية لهذا المفهوم فهي:

أ) المضمون اللغوي. فجذر كلمة شورى مأخوذ من «اشتيار عسل النحل»، أي اجتناؤه وقطفه.. ومفهوم تطبيقه في مجال الشورى هو: استخلاص واجتناء أحسن وأكمل وأنفع ما في عقول الناس من رأي وحكمة وفطنة وخبرة ومشورة.

ب) مضمون أن الشورى جاءت مجملة غير مفصلة، سواء في آية الوصف والخبر: «وأمرهم شورى بينهم».. أو في آية الأمر والإيجاب: «وشاورهم في الأمر».. والحكمة الإلهية في ذلك - والله أعلم - أن الله يعلم ويريد أن العصور ستتطور، وأن صيغ التشاور وأساليبه ستتبدل. ووفق علمه وإرادته جعل - سبحانه - مبدأ الشورى مجملا غير مفصل، وذلك لكي تفصله الأنظمة السياسية المتعاقبة وفق حاجاتها وظروفها واجتهاداتها المتجددة في العصور الآتية.. والشورى - بهذه المثابة - هي أوسع أبواب الاجتهاد المتجدد: موضوعيا وزمنيا.

ولا ريب في أن اقتصار نصوص الشورى على إقرار «المبدأ العام» يدل على خصوبة هذه النصوص ومرونتها واتساع دلالتها لتقبل كل ما تقتضيه العدالة والمصلحة في كل بيئة وعصر.

فالشورى من صميم السياسة الشرعية. وهذه السياسة هي، كما عرفها ابن عقيل الحنبلي: «السياسة هي ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي».