رُبَّ غضْبة نافعة

TT

لا ندري لماذا اختار الدكتور عصام شرف رئيس وزراء مصر «ثورة 25 يناير» فضائية تركية لكي يقول من خلالها الكلام الذي بقي على مدى سنوات حبيس صدور رموز العمل السياسي والحزبي والثوري والإخواني والوفدي واليميني واليساري والأزهري، والأهم من هؤلاء رموز المؤسسة العسكرية المتمثلة «المجلس الأعلى للقوات المسلحة». لماذا من خلال القناة التركية وليس عبْر إحدى الفضائيات المصرية، بل والتلفزيون المصري الرسمي الذي أعاد بث المقابلة نقلا عن الفضائية التركية مع أن منطق الأمور هو حدوث العكس.

وما قاله رئيس الوزراء المصري وبثته الفضائية التركية عصر يوم الخميس 15 سبتمبر (أيلول) 2011 اليوم الذي أنهى فيه أردوغان زيارته لمصر هو «إن معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ليست شيئا مقدسا وبنودها قابلة للنقاش وذلك بما يفيد مصلحة المنطقة وعملية السلام. وبنود هذه الاتفاقية قابلة للتغيير إذا ما تطلَّب الأمر ذلك».

قد يكون الدكتور شرف رأى أن زائر مصر الكبير الشأن رجب طيب أردوغان خطف البريق الوطني «ثورة 25 يناير» بمواقفه من إسرائيل ومن بينها عشية زيارته إبعاد السفير الإسرائيلي لدى تركيا والتمسك بطلب اعتذار إسرائيل عن عدوانها على سفينة السلام التركية والتعويض على المواطنين الأتراك الذين كانوا ضمن المجموعة المختلَطة الجنسيات في طريقهم إلى غزة، وكذلك الإصرار على رفْع الحصار عن غزة. كما قد يكون رأى ضرورة تسجيل وقفة وطنية من جانب الحكومة تغطي ما حدث من جانب مجموعات من المصريين الغاضبين الذين اقتحموا أسوار سفارة إسرائيل وتسلَّق أحدهم وأنزل علَم إسرائيل، ثم استطاع أفراد دخول طبقة من الطبقات الثلاث التي تتخذُ سفارة إسرائيل منها مقرا لمكاتبها وبعثروا المحتويات ورموا الملفات بما حوت من وثائق من نوافذ الطبقة التي تضم القسم الإداري للسفارة، متسببين باضطرار رجال الأمن لتنفيذ مهمة تأمين سلامة السفير الإسرائيلي وطاقم السفارة من الخروج بأمان وتسفيرهم إلى إسرائيل تجاوبا مع مسعى أميركي على أعلى المستويات تولاَّه الرئيس أوباما شخصيا.

كلام رئيس وزراء مصر حول المعاهدة نوع من الغضْبة مع بعض الفضفضة، ولا يرقى إلى مرتبة الموقف الرسمي الحاسم، ما دام ليس هنالك توافُق حوله، ذلك أن مصر في مرحلة انتقالية حيث هنالك سلطة وإدارة إنما ليس هنالك رئيس للبلاد من حقْه إلغاء المعاهدات أو تعديلها وليس هنالك برلمان يتقدم بعض أعضائه باقتراح إلغاء أو تعديل بنود في المعاهدة لكي تتم المناقشة قبل رفْع الأمر إلى رئيس البلاد كي يتخذ القرار. بل حتى إن القائل بعدم قدسية المعاهدة تقتصر مهمته على تصريف أعمال.

لكن مع ذلك حققت الطلقة الغرض. فالحكومة الإسرائيلية ارتبكت وبدأت تستفسر وتنشط لدى الراعي الأميركي لكي يتدخل مع تشديد المدير العام للخارجية الإسرائيلية رافي باراك لدى اجتماعه في اليوم التالي (الجمعة 16 سبتمبر/ أيلول) لمدة نصف ساعة بالسفير المصري ياسر رضا على إبلاغه «إن إسرائيل مستاءة من كلام رئيس الوزراء المصري لأن المعاهدات يجب أن تُحترم حرفيا وأنها من جانبها لا تنوي مراجعة معاهدة كامب ديفيد للسلام لعام 1979 وهي خطوة لا يمكن اتخاذها أحاديا». والحكومة الأردنية بدأت تجدُ نفسها أمام احتمال أن يتكرر فِعْل الغضب المصري على سفارة إسرائيل على نحو ما تتضمن من تداعيات، فينصبُّ الغضب الأردني الساطع على سفارة إسرائيل في عمان. ومن جانبه فإن الرئيس أردوغان بات رغم وساطة أميركية للتهدئة غير مرحَّب بها من جانبه ليس من مصلحة طموحه في أن يكون عبد الناصر الجديد متسيدا الجمع العربي - الإسلامي من خلال الورقة الفلسطينية، أن يعيد النظر في تحديه لإسرائيل ذلك أن أي استدارة من جانبه ستجعل معارضيه من الأطياف اليمينية العلمانية

يحاولون الانقضاض على زعامته بالتعاون مع المؤسسة العسكرية التركية التي ضعُف ساعدها بعض الشيء لكن تبقى قادرة على رمي الأردوغانية لمجرد أن يشتد الساعد بفعل تعثُّر خطة أردوغان نتيجة جموحه واندفاعه الذي ما زال حتى إشعار آخر دون جموح واندفاع الرئيس محمود أحمدي نجاد الذاهب إلى الأمم المتحدة متأبطا التحديات، والرئيس (الراحل) صدَّام حسين الذي أودت به و«العراق البعثي» التحديات أيضا.

في أي حال قد تُثمر «الغضْبة الشريفية» سواء كان يقصد افتعالها أو أنها جاءت عفوية أو نتيجة عدم ترْك أردوغان فارسا مقداما في عيون المصريين الذين بدأ بزيارتهم جولة محاولة استقطاب العهود العربية الجديدة في مصر وتونس وليبيا استعدادا لاستقطاب الجزائر التي تعيش حقبتها البوتفليقية بداية مخاض أدناه ولادة كالتي من المرجَّح حدوثها في اليمن وأقصاه ولادة ليبية وذلك على أساس أن نفط الجزائر يستحق مغامرة أطلسية كتلك التي خص بها الأطالسة ليبيا ذات الآبار، فضلا عن أن مغامرة في الجزائر من شأنها أن تحمي الوجود الأطلسي المرتَقَب في ليبيا بعد اكتمال نشْر «الديمقراطية» في ربوعها على نحو النشر البديع لهذه «الديمقراطية» في العراق المتفجر على مدار الساعة.

أما الذي قد تثمره الغضْبة إلى جانب فتْحها صندوق المعاهدة المحرَّم فتْحه منذ أن وقَّعها السادات وحتى يوم قول رئيس الوزراء عصام شرف أنها غير مقدسة، فإنها قد تُهدي الإدارة الأميركية وأكثرية دول الاتحاد الأوروبي إلى سواء السبيل فتيِّسر هذه أمر طلب الرئيس محمود عباس يوم 23 سبتمبر الماضي «اكتساب فلسطين عضوية دولة من دول الأمم المتحدة» وذلك على أساس أن الدول الموافِقة سلفا على الطلب تُجيز للمنظمة الدولية قبول الطلب وعلى أساس آخر وهو أن الرئيس أوباما سبق أن قال مِن على منبر الأمم المتحدة «إنني أريد أن أرى فلسطين دولة في 2011». وما على رئيس أميركا سوى تنفيذ الوعد وليس التملص منه. وهو إذا نفَّذ سيكون قدَّم إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أفضل تهنئة باليوم الوطني للمملكة. فلولا سعي الملك عبد الله لما كان للرئيس أوباما أن يقول ما معناه إنه سيصحح ما لم يقم به سلفه الرئيس جورج بوش الابن الذي وُلدت المبادرة العربية في بداية ولايته الرئاسية الأولى واستمر مراوغا في شأنها حتى انتهاء ولايته الرئاسية الثانية، ثم جاء الرئيس الخلْف أوباما يصغي إلى نصائح عبد الله بن عبد العزيز وأهمها على الإطلاق أنه بتطبيق المبادرة تتحقق سلة متكاملة من الإنجازات بحيث تقوم دولة فلسطين، ولا تعود القضية الفلسطينية وسيلة للتكسب والتزعم، وتغسل أميركا ومعها بريطانيا في حال عدم الحسم الشوائب المتراكمة على وجهيهما جرَّاء تسامُحهما مع ذنوب إسرائيل، ولا تعود نوازع الحروب هي السائدة، وتنحسر رقعة المتطلعين إلى الهيمنة على المنطقة.

وكل هذه المكاسب يمكن إنجازها في حال تحققت الخطوة الأولى لقيام دولة فلسطين يوم 23 سبتمبر. كما أن بديل المكاسب يمكن أن ينتهي كوارث، خصوصا أن صاحب المبادرة العربية عبد الله بن عبد العزيز سبق أن قال ناصحا ومُنبها إن المبادرة يمكن أن لا تبقى على الطاولة، ثم ها هو الأمير تركي الفيصل يقول من خلال صحيفة «نيويورك تايمز» المقروءة من الطرفين وبذلك تكون الرسالة وصلت إليهما وإلى صانعي القرار الأميركي وشعب الولايات المتحدة «استخدموا الفيتو ضد الدولة الفلسطينية.. اخسروا تحالفكم مع السعودية».

وهكذا فإن كلام رئيس وزراء مصر عصام شرف المتزامن مع دعوة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في اليوم نفسه بعد استقباله الرئيس محمود عباس، الدول العربية والإسلامية لمواجهة احتمال حصول «الفيتو» الأميركي، ينسجمان مع الكلام المشار إليه للملك عبد الله ومع ما كتبه الأمير تركي.. وهو مع الذي يؤديه الزعيم التركي أردوغان، كلام مَن يريدون القول: اللهم فاشهد. اللهم إننا قد بلَّغْنا.