عمائم الدم في إيران!

TT

لقد انقرضت الدول التي تهدد معارضيها أو خصومها بالقتل خارج حدودها، وتسعى لتنفيذ ذلك عبر التعاون مع جماعات إرهابية وعصابات إجرامية، كان آخرها سقوطا هو نظام صدام ونظام القذافي، ولم يبق اليوم سوى إيران وسوريا.

إنهما نظامان ديكتاتوريان شرسان في التعامل مع الداخل، ويسعيان للتعامل مع الخارج بذات الطريقة، وما خضوعهما للعهود والمواثيق الدولية إلا تحلة القسم، مما يجعلهما يرتكبان الفظائع كلما سنحت لهما الفرصة.

في العملية الإرهابية لاغتيال سفير السعودية في واشنطن عادل الجبير ترتكب إيران حماقة سياسية بكل المقاييس، إنها تريد العودة لتخويف الدول ومسؤوليها عبر الاغتيالات السياسية، وهي طريق المفلسين سياسيا، فالدول القوية لا تتبع مثل هذه الطرق الإجرامية، ففي الدبلوماسية والاقتصاد ما يكفي من القوة عند التفاوض أو الصراع السياسي.

أحيانا، تخون القائد السياسي خبرته، وتعمل تجربته وإن طالت ضده، ويعميه طول المكث في مكانه عن رؤية صائبة للمتغيرات من حوله، ويتسبب قمعه للآراء الأخرى في انحصاره داخل رؤية مغلقة غير قابلة للفحص والتمحيص، وهو تحديدا ما جرى في إيران لدى الولي الفقيه، الذي يحكي تاريخه قدرا غير ضئيل من الحنكة والمهارة، ولكنها خانته هذه المرة، وربما كان للضغوط والعقوبات الدولية أثر في دفعه لشيء من التهور والقرارات الخاطئة.

إنه يفكر ويقدر، لقد لاعب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وكسب كثيرا، ولكنه لم يدخل مواجهة مباشرة معها في أي من البلدين، وها هو يرى الضغوط الدولية تهدد حزبه الإلهي في لبنان عبر المحكمة الدولية في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، تلك التي قد تمتد خيوطها لتشمل سوريا أو تطال إيران، وها هو يتابع كيف ثار الشارع والشعب في سوريا ضد أقوى حلفائه في المنطقة نظام الأسد، وكيف تدفع هذه الضغوط باتجاه حل النظام وإسقاطه.

في ظل هذه الظروف.. اقتصاد ينهار، وبطالة تتفشى، ومعارضة قمعت بالقوة ولم تنته بل بقيت متقدة تحت الرماد، وربيع عربي رحب به فإذا به يصل إلى قلب نفوذه في المنطقة، في سوريا، فلم يجد بدا من التكشير عن أنيابه، وتحريك كثير من أوراقه.. «قاعدة» وجماعات مسلحة تعود للمشهد في العراق، ومحاولة إشعال الفتنة الطائفية في العوامية شرق السعودية، ومحاكمات الإرهاب في الرياض تشير صراحة إلى انطلاق أوامر بعمليات إرهابية من إيران، وموقف أكثر تصلبا من الخلاف حول الجزر الإماراتية، وخلايا تجسس في الكويت، ومحاولة لاغتيال سفير السعودية في واشنطن، وتدخل سافر في البحرين، وتهديد لتركيا بتحريك ملف الأكراد، ردا على قبولها لنشر صواريخ حلف الأطلسي، ووقوفها ضد نظام الأسد.

إن نظام العمائم في إيران لم يستنفد كل أوراقه بعد، فمل زال حزب الله المسيطر على الحكومة في لبنان لم يحرك ساكنا تجاه إسرائيل، وإن تحرك باتجاه مساعدة النظام السوري على قمع الشعب، وحماس تعيد جدولة حساباتها مع مصر الجديدة التي أعلنت بصراحة أن أمن الخليج خط أحمر، وحراك عباس الدبلوماسي القوي، وانشغال سوريا بالداخل.

إنها حرب باردة جديدة يعلنها نظام العمائم ضد السعودية ودول الخليج، وضد تركيا والغرب من ورائها، ولئن كان محور الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي قد تركز في الثمانينات في أفغانستان، فإن محور هذه الحرب الإيرانية مثلث ينطلق من البحرين إلى العراق إلى أفغانستان، مع عدم نسيان الامتدادات الإقليمية الأخرى لذلك النظام إن في لبنان وسوريا وغزة، وإن في اليمن، وإن في القرن الأفريقي.

مع كل هذا الصراع الإقليمي الطويل مع إيران، ومع كل هذه السياسات العدائية ضد السعودية والخليج والعالم العربي، فإن ما يثير العجب هو مواقف بعض المثقفين السعوديين والخليجيين والعرب تجاه هذه السياسات، سواء كانوا من فلول اليسار أو من جماعات الإسلام السياسي، أو من المثقفين الشيعة، أو من الناشطين الحقوقيين الجدد.

لدى فلول اليسار إحن وأثآر مع الغرب، تعميهم عن رؤية الخطر الإيراني، ولدى جماعات الإسلام السياسي وبعض رموزهم صلات ومصالح وتحالفات مع نظام الثورة الإسلامية في إيران تدفعهم لاتخاذ مواقف مهادنة تجاهه، ويعتقد بعض المثقفين المنتمين للطائفة الشيعية أن إيران هي حامية حقوقهم وراعية مصالحهم، ويخبط بعض الناشطين الحقوقيين الجدد خبط عشواء، فأكثرهم غارق في ثقب الحقوق التي لا يعرفها حقا وإن رفعها شعارا، ويجره جهله بالصراع الإقليمي وحرب إيران الباردة ضد وطنه إلى أن يخدم بوعي أو بدون وعي - وهو الأكثر - أجندة إيران، ولا أدلّ على هذا من طرح بعض ناشطيهم في مواقع التواصل الاجتماعي لفكرة «إيران فوبيا». لقد أعجبتهم فكرة مناكفة النظام حتى وإن اصطفوا مع العدو المعلِن للعداوة، والجهل والحماس يعشيان ذوي العقول، فضلا عن شباب صغير متحمس.

بالنسبة إلى السعودية ودول الخليج فإن التصدي لهذه الحرب الإيرانية الباردة يجب أن يكون برسم استراتيجية متكاملة للتعامل معها، فقد استمرأت إيران أن تعتدي وتتطاول دون رد، وجاء الوقت لتعرف غير هذا، ولتكن البداية من جريمة محاولة اغتيال السفير السعودي لدى أميركا، وتصعيدها في المحافل الدولية وإيصالها إن لزم الأمر للمطالبة بإحالتها إلى المحكمة الدولية.

ستعلو أصوات دينية مؤدلجة لمواجهة إيران عبر التصعيد الطائفي المقيت، وهذا أمر طبيعي، ولكن ينبغي أن تنطق الأصوات العاقلة التي يمثلها كثير من المثقفين الصامتين لتعبر عن رأيها تجاه هذه الحرب المعلنة والشرسة، وألا تعشيها المكاسب الصغيرة والأتباع المتحمسون عن اتخاذ المواقف الواعية والتصريح بحجم الخطر الذي تمثله إيران في هذه المرحلة. موقف الولايات المتحدة طبيعي ومفهوم تجاه خرق مباشر لسيادتها وأمنها، والموقف السعودي والأوروبي كذلك، وينبغي السعي للحصول على إدانة دولية صريحة لتلك العملية، وفرض مزيد من العقوبات، واتخاذ مواقف دبلوماسية تعبر عن هذه الإدانة. وينبغي على المتبنين منا لوجهات نظر إيران أن يعيدوا حساباتهم، وأن يعدلوا اتجاه بوصلتهم.