السباحة عكس التيار

TT

على خلفية ما جرى في تونس ومصر من سقوط سريع لنظامي بن علي ومبارك على أيدي الجماهير الثائرة المنتفضة كان انتصار الثورة الليبية مؤكدا وحتميا في الأيام الأولى لها عندما كانت سلمية ثم ارتقت فيما بعد إلى ثورة مسلحة ردا على ممارسات القذافي القمعية، إلا أن الثورة انتصرت بتحريرها العاصمة من الحكم الديكتاتوري، ولم تبق هناك سوى جيوب مقاومة يائسة في بني وليد وسرت، من النوع الذي كان يسمى في الماضي بالثورة المضادة، والثورة المضادة المسلحة غالبا ما تتميز بضيق حلقاتها واقتصار المشاركة فيها على رموز النظام المنهار ومرتزقته، وعدم تعاطف الداخل والخارج معهم. لذا غالبا ما كانت تتميز بعمر قصير وسط نقمة داخلية وخارجية عارمة، عليها.

القذافي في مقاومته لثورة شعبه أنموذج جيد للثوري المضاد وللسباحين في الاتجاه المعاكس للتيار، وفي التاريخ الحديث والقديم، أمثلة لا تحصى على الثورة المضادة اليائسة والبائسة في آن معا.

يوم استولى الجنرال عبد الله السلال على السلطة في اليمن عام 1972 وأسقط الملكية بحركة انقلابية عسكرية، كان العصر، عصر الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية التي كانت مدعومة من دول المعسكر الشرقي ودول عدم الانحياز، أي من معظم دول وشعوب العالم. ولقد أخطأ الإمام بدر في حساباته حين قاوم النظام الجمهوري من خلال شن حرب عصابات عليه خاضتها قلة في الداخل وقلة في الخارج. وكانت النتيجة أن صار الإمام بدر وثورته الملكية المضادة في خبر كان وأصبحا نسيا ومنسيا إلى يومنا هذا.

وبعد انتصار ثورة أكتوبر الشيوعية في روسيا وانتزاع لينين وحزبه البلشفي للسلطة من حكومة «كيرنسكي» أثناء الحرب العالمية الأولى، واجه النظام الشيوعي الجديد لسنوات مقاومة مسلحة ضارية وبالأخص في «القوقاز» إلا أنها - وكما كان متوقعا - منيت بالفشل والهزيمة. فالتيار الجارف في داخل روسيا وخارجها مسنودا بالملايين الروسية وأخرى مؤيدة للاشتراكية كان أقوى من تمرد القوقاز وثورتهم البيضاء المضادة.

وفي العراق، بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي نفذه الزعيم عبد الكريم قاسم صبيحة يوم 14 تموز عام 1958، وإسقاط النظام الملكي، فإن الشعارات والأهداف التي أعلنها الذين قاموا بالانقلاب وجدت تأييدا منقطع النظير من جانب الأكثرية الساحقة من الشعب العراقي من عرب وكرد وغيرهم ومن جانب أقوى وأضخم حزب يومذاك، ألا وهو الحزب الشيوعي العراقي. لذا، فإن الثورة المضادة تمثلت بحركة العقيد عبد الوهاب الشواف الفاشلة التي انطلقت من الموصل، ولم تدم سوى ساعات فجرى إنهاؤها على يد الجماهير الغاضبة من قبل أن تتدخل القوات الانقلابية الجمهورية، متأخرا بعض الشيء لقمعها. وهكذا كانت حسابات العقيد الشواف خاطئة والتي استهانت بقدرة الجماهير العراقية والحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني واعتمدت على فئات قومية معزولة ورموز محسوبة على النظام الملكي المنهار.

ومن الأمثلة على السباحة عكس التيار أو الثورة المضادة، ما حصل قبل شهور في دولة ساحل العاج بأفريقيا، فعلى أثر الفوز الساحق الذي حققه زعيم المعارضة الحسن وتارا على منافسه في الحكومة غباغبو سارع الأخير للوقوف بوجه التيار الفائز الذي كان مدعوما داخليا وأفريقيا وعالميا، فلقد غابت هذه الحقائق الكبيرة عن غباغبو وراح يخوض صراعا يائسا وبائسا تكلل باندحاره في نهاية المطاف.

وعلى الرغم من أن الثورتين السلميتين السورية واليمنية، لم تحرزا الانتصار التام والنهائي على الأسد وصالح إلى الآن، فإن انتصارهما مؤكد وحتمي، نظرا لتوفر أسباب انتصار الثورات التونسية والمصرية والليبية فيهما ولن تفلح أساليب القمع والقتل التي يمارسها النظامان بحق الثورتين السلميتين في إيقاف عجلتهما، وإن غدا لناظره قريب.

* رئيس تحرير جريدة «راية الموصل» العراقية