ماذا يكتب الغربيون؟

TT

أتابع الأحداث العربية في الصحافة الدولية مثل أي مهني عاش الصحافة الكبرى في عصر ثم رآها في عصر آخر. لا شك في أن الصحافة المكتوبة العالية قد وهنت. كنت أنتظر صدور «الموند» بعد الظهر في باريس كما ينتظرها الباعة. لم يعد أحدنا ينتظر الآخر. أبحث عن الاختصار في الـ«هيرالد تريبيون» وعن التفاصيل في «الغارديان»، وإذا اشتريت «النوفيل أوبسرفاتور» بين الأسبوعيات فلكي أرى كيف يشيخ الصحافي الكبير وهو لا يزال جان دانيال، الوحيد الباقي عادلا من مؤسسي مجلات الخمسينات والستينات، يوم كان مديرو الصحف أهم وأرقى من أصحاب الأحزاب الرئيسية.

فيما تضعف الصحف الأميركية وتغلق المطابع اكتفاء بالـ«أون لاين»، وهو تعبير قديم جدا من أيام التليفون «أبو مسكتين»، أو أبو «وشواشتين» كما يقال في دمشق، تغزو الصحافة البريطانية أميركا في اندفاع متواصل: «الإيكونومست»، سيدة الأسبوعيات في العالم، و«الفايننشيال تايمز» صحيفة المال بطبعاتها الكثيرة من الإمارات إلى الهند، والآن «الغارديان»، هذه الجريدة التي بدأت قبل قرنين صحيفة لعمال الفبارك ومصانع القطن في مانشستر، وها هي تنافس الـ«نيويورك تايمز» والـ«واشنطن بوست» بين الأميركيين «على الخط». السبب؟ مجموعة أسباب: التلفزيون، وثقافة الـ«تويتر»، وحياة السرعة، وتعود أسلوب الريموت كنترول في الاطلاع على الأحداث، وغلاء الورق، ورخص الإنترنت، ولا أدري كم سببا آخر. لكنني أعتقد أن السبب الأهم مهني؛ فقدت الصحافة الأميركية والفرنسية «المحقق الكبير» والمراسل الأديب. لم يعد في «الموند» رجال مثل جان لاكوتور، وأندريه فونتين، وكاتب تلك الزاوية الصغيرة على الصفحة الأولى، الأستاذ روبير إيسكاربيت. فلو لم يكن في الصحيفة أي شيء آخر ذلك النهار سوى عصارات ورحيق وثقافات البروفسور إيسكاربيت، لشعر قارئ «الموند» بأنها سددت له ثمن النسخة ولا يزال مدينا لها بالكثير.

هذه عادة الناس: الحنين إلى أشياء من الصعب أن تعود. ولى رجالها وولى زمانها وولى مناخها. عندما توفي والتر ليبمان عام 1974 حاول مائة كاتب أميركي على الأقل أن يملأوا زاويته. ثم اكتشفوا أنها لم تكن زاوية بل عامود من الأبنوس. طالما كتب أن لا وقت لدى القارئ العادي ولا همة ولا رغبة في طرح الأسئلة والتعمق في القضايا، ولذلك سوف يقوم هو بالمهمة عنه. وبعدها لا يعود مهما إن هو قرأ أو رمى الصحيفة في السلة أو انصرف إلى ملء شبكة الكلمات المتقاطعة.

كان هو أول من استخدم (عنوان كتاب) مصطلح «الحرب الباردة»، وأصبح العالم يفهم ما يدور حوله من خلال كلمتين. جورج كينان دلنا على سيارة «الاحتواء». ديغول دلنا على حالة «الانفراج». فيلي برانت تحدث (عن) ومارس عظمة الاعتذار تحت عنوان «الصفح». الصحافيون يقودون يومياتنا، من دون أن ندري. لم يعد هناك قادة يخطبون فينا ويشرحون صناعة التاريخ وغموضه وانعكاساته. الآن، الصحافة تفعل ذلك، وليس دائما برفعة أو بمهارة. أما القادة فمعهم الملايين. أنا معي الملايين. من دون تحديد طبيعتها.