تدمير كنيسة في الصعيد مشكلة «بثلاثة مليم»

TT

تهدأ الأحداث لعدة أيام وفجأة ينفتح مخزن الأحزان بفعل فاعل، فتندفع الأحزان نحونا لتملأ قلوبنا وتشل عقولنا وتلقي بنا في هوة اليأس والتعاسة. مظاهرة من بين مئات المظاهرات التي تحدث في مصر كل يوم، غير أنها كانت هذه المرة من المسيحيين الغاضبين. كانوا في طريقهم من حي شبرا إلى مبنى التلفزيون، وهو الموقع الذي يفضله المصريون لإعلان غضبهم. كانوا غاضبين لأن المتعصبين في صعيد مصر، إدفو – أسوان، قاموا بتدمير كنيسة، المحافظ يقول إنها لم تكن كنيسة بل مضيفة، بعدها بلحظات يرسل رجال الكنيسة من هناك إلى الفضائيات أوراقا ووثائق تثبت أنها كانت كنيسة تجرى فيها بعض الإصلاحات، ويعلن أحد القساوسة في فضائية أن المسؤول عن ذلك ليس الأهالي المسلمين الذين يعيشون في سلام ووئام مع إخوتهم الأقباط، بل هم المغتربون الذين يعيشون في القاهرة، وهم الذين يقومون بعمليات التحريض عند زيارتهم للقرية، من أطباء ومحامين ومدرسين.. التحريض مستورد من القاهرة إذن. إذا صح الأمر فلا بد أنهم من المحرضين التعساء الذين حرموا من التحريض ضد الأقباط بالطرق المعروفة المعتمدة وهي الكاميرات والميكروفونات في البرامج المسموح بها لزيادة مساحة الشر بين المصريين.

ويقول رئيس وزراء مصر إنه لا توجد فتنة طائفية في مصر، وأعجز عن تصديقه، ربما لا توجد فتنة، ولكن بالتأكيد توجد طائفية. ويقول خبير أمني برتبة لواء مندهشا: «حادث بثلاثة مليم في صعيد مصر.. يترتب عليه ما حدث في ماسبيرو من قتل وتدمير..؟».

الخبير لا يحتل منصبا، لكنه بالتأكيد خرج من منصبه منذ فترة قصيرة، أي أن تقييمه لما حدث ما زال ساري المفعول عند زملائه الموجودين في الخدمة حاليا. تدمير كنيسة في الصعيد، حادث «بثلاثة مليم»، التعبير كان شهيرا في مصر منذ سنوات طويلة واختفى بعد أن اختفى المليم. وللأجيال الجديدة، الجنيه المصري يساوي ألف مليم. هذه هي المشكلة، هناك في مصر وفي أعلى درجات السلطة من يرى أن تدمير كنيسة خاصة في الصعيد، مشكلة لا يجب أن ننشغل بها، هي تمثل ثلاثة مليمات فقط. أضف إلى ذلك أن الحادث وقع في مكان بعيد للغاية هو الصعيد، ذلك المكان الذي ينفى إليه الموظف المغضوب عليه.

نأتي الآن للسؤال الصعب الذي لا يستطيع أحد - ولا أنا - مسؤولية الإجابة عنه، وهو: هل يكره المسلمون المصريون أو عدد كبير منهم، المصريين الأقباط في مصر؟ هل النوع السائد من التدين في مصر، يؤدي إلى تعصب تترتب عليه هذه الأحداث التي تحدث الآن؟

لو أجبنا بالإيجاب سنجد أنفسنا في مواجهة مشكلة حقيقية وهي حتمية إعادة النظر في الأفكار والدعوات الدينية السائدة والتصدي لها بحركة فكرية إصلاحية شاملة. الآن فقط أثمرت جهود مدرسي ومدرسات مدارس الحضانة والمدارس الابتدائية التي استمرت لأعوام طويلة، والتي كانوا يحذرون فيها الأطفال المسلمين من اللعب مع الأطفال الأقباط.

هناك عدد كبير من البشر يتصورون بدافع من ضعف العقل والتخلف، أنهم من المستحيل عليهم أن يكونوا مؤمنين حقا بغير كفار يشعرون تجاههم بأكبر قدر من الكراهية. وأنا أعتقد أن تمثيليات التلفزيون في السبعينات والثمانينات مسؤولة عن ذلك إلى حد كبير، فقد كانت تلح على مدار الساعة في عرض عالم ثنائي مكون من المؤمنين والكفار فقط. ولأننا نعشق العيش في الماضي عجزا عن التعامل مع الحاضر، لذلك كان لا بد من وجود كفار حولنا، من هنا جاء التعصب وكراهية المسيحيين. أحد الدعاة القدامى الذين اختفوا الآن بعد أن تسلم شريط فيديو يقوم فيه بأعمال غير دعوية، قال في برنامج شاهدته بنفسي على شاشة التلفزيون المصري: «وعندما يقول لك الشخص النصراني السلام عليكم، عليك أن ترد عليه.. السام عليكم، والسام بمعنى الموت». وحتى في أيامنا هذه من الممكن أن تقابل شخصا طبيعيا يقول لك: «فلان ده على الرغم من أنه مسيحي فإنه شخص ابن حلال».

التعصب وليد الجهل والتخلف، وهو أداة قوية من أدوات غريزة العدوان، وفي غياب قوة الدولة وعدم إعمال القانون نصا وروحا، سينتهي كل حادث طائفي - أو سمه ما شئت - بجثث القتلى والأجساد النازفة على الأرض.

عندما نتكلم عن قوة الدولة فلسنا نتكلم عن مؤسساتها المسلحة والأمنية والعدلية، بل عن مسؤوليها الذين يشعرون في أعمق أعماقهم بمسؤوليتهم عن حماية الإنسان الفرد. الإنسان الفرد وملكيته الفردية الخاصة، وحقه في ممارسة شعائره في مكان عبادته الآمن. إذا كانت للدولة وظيفة في هذا العصر فهي حماية الإنسان الفرد عندما يطلب الحماية، وأيضا عندما يعجز عن طلبها. إنها المواطنة التي يتكلم عنها عدد كبير من الناس بغير أن يعرفوا معناها، أو يعجزون عن تحقيق ما تفرضه من استحقاقات. كان من المحتم أن تتدخل الدولة لحماية كنيسة المريناب في اللحظات نفسها التي هاجمها فيها المتعصبون، وعندما يحدث ذلك في غيابها لسبب من الأسباب فعليها أن تقدم المسؤولين عن ذلك إلى المحاكمة السريعة. على كل من يعيش على هذا الوادي أن يعرف أن آلام الناس ثمنها أكبر ببلايين المرات من المليمات الثلاثة.

إن سلطوية الدولة الاشتراكية القديمة في مصر نتجت عنها تشويهات كثيرة في طبيعة الحياة وطبيعة المصريين، وعلينا ألا نخجل من إعلان ذلك، ممرضة متعصبة، مدرس متعصب، مسؤول كبير متعصب، ستعجز الدولة عن التخلص منهم لأن الفلسفة الاشتراكية السلطوية ما زالت تحميهم، لو أن أحدا منهم مهدد بالفصل من عمله لكان من السهل عليه مراجعة أفكاره. غير أن الاتجاه إلى الحرية السياسية والاقتصادية يحتم التخلص من هذا النوع من البلطجة، وفي اللحظة التي يكون فيها المجتمع في حاجة إلى الكفاءة والأكفاء، ستكون الميزة الوحيدة للمواطن في مصر هي أنه يجيد عمله بغض النظر عن ديانته أو مذهبه.

هناك دعوة هذه الأيام للمصريين أن يعلق المواطن علم مصر في كل مكان، في مكتبه، في شرفة بيته، على سيارته، والهدف من هذه الدعوة هو أن يتذكر الناس أننا جميعا مصريون، وكأن الذين دمروا الكنيسة لا يعرفون أو نسوا أنهم مصريون، وكأن البلطجية الذين يهاجمون البشر على الطرق ويسرقون أموالهم وسياراتهم في حاجة لمن يذكرهم بأنهم مصريون. والله لو أن الحل كان في إعادة تذكير المصريين بمصريتهم، لأفلحت أغانينا في ذلك، إن كمية الأغاني التي تتكلم عن مصر وحبها كفيلة بدفع الشعب الإنجليزي لو استمع إليها لطلب الحصول على الجنسية المصرية.. بل من المهم والأجدى أن يذكرنا أحد بوجود القانون.