النداء الطائفي في ضوء الحدث المصري

TT

دفعت الصدامات الطائفية الأخيرة في مصر البعض إلى التساؤل عما إذا كنا سنشهد تكرارا لقصة العراق، وإذا كان الكباش الطائفي يحدث في بلد تم تقديمه بوصفه صورة جيدة للتجانس الاجتماعي ولقوة الهوية الوطنية، قياسا بمعظم البلدان العربية الأخرى، فإن هنالك من يستنتج أن مأزق ما بعد التغيير في العالم العربي سيأخذ حتما هذا المسار التفتيتي الفوضوي. النداء الطائفي يفرض نفسه تكرارا ومرارا على الرغم من كل الجهد المبذول من قادة الاحتجاج ومن الحكومات الانتقالية لإنكار وجود مشكلة طائفية، وللتأكيد على وحدة الشعب. هل الأمر يتعلق باستعصاء عربي وإسلامي ما كما قد يتسرع البعض إلى الافتراض، أم أن هذا الصعود في المشاعر الطائفية قابل للتفسير بلغة أكثر علمية لا تقوم على لعن الذات بقدر ما تحاول أن تفهم طبيعة هذه الظاهرة؟

السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو لماذا النداء الطائفي دون غيره؟

صعود الطائفية الدينية في منطقتنا هو عام وشامل ولا يقتصر على دين دون غيره، ولا مذهب دون غيره، أولئك الذين يريدون أن يوجهوا اللوم إلى طرف دون غيره يمارسون الطائفية بدورهم ولكن بطريقة غير معلنة. الأمر أعقد من ربطه بممارسات فردية أو بحوادث مجتزأة، إنه يكاد يكون ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية عامة. هذا الصعود يقترن أساسا بضعف الدولة وبتغير وظائفها، وبانسحابها من الفضاء الاجتماعي ومن صناعة الهوية لتترك فراغات ملائمة تملأها هويات ما قبل الدولة وولاءات ما قبل الوطنية. الدولة في منطقتنا لم تكن دائما مشروعا ناجحا، بل هي إلى حد كبير أداة قسرية لفرض وحدة إجبارية على المجتمعات، وهي وحدة تغدو قابلة للتحقيق كلما نجحت الدولة في بناء التجانس الاجتماعي واستيعاب المطالب الاجتماعية وعدم التمييز بين الأفراد والجماعات على أي أساس غير مدني وغير قانوني. ما حصل عندنا هو أن الدولة فشلت في تنمية وظائفها بما يتلاءم مع نمو المجتمع وتحولاته، في معظم مجتمعاتنا حصل تضخم سكاني متواصل ونمو كبير في حجم الفئات الشابة، وازداد عدد سكان المدن على حساب الأرياف، وازداد عدد المتعلمين، وازداد عدد الطامحين في تحسين أوضاعهم الاجتماعية، والمتأثرين بأنماط الحياة الحديثة، وغير الراغبين في البقاء في الهامش أو العودة إلى الأرياف، لا سيما أن تلك الأرياف قد أصابتها انتكاسات كبيرة مع إهمال الزراعة وتراجع الموارد المائية وكثافة الاستيراد.

يعني ذلك أنه في الوقت الذي كانت الاحتياجات السكانية تتضخم فيه، كانت الدولة تصبح أكثر عجزا في تلبيتها، فتلجأ بالتالي إلى المؤسسات الأمنية وأدوات القمع لفرض السلم الاجتماعي بالقوة، وهو ما يقود بالضرورة إلى انقطاع عاطفي ووجداني بين فئات اجتماعية واسعة وبين الدولة التي تصبح في نظر الكثيرين خصما لا صديقا. الدولة في الكثير من بلداننا، وبشكل خاص منذ نهاية الثمانينات، ما عادت قادرة على توفير فرص عمل حقيقية للأعداد المتزايدة من الشباب، ولا إشباع رغبات أجيال جديدة متطلعة لحياة أفضل، فإذا أضفنا إلى ذلك فساد أجهزتها والتمييز الشديد داخلها عبر أدوات المحاباة والواسطة، بحيث خلقت طبقة صغيرة مستفيدة على حساب أغلبية مهمشة، فسنفهم لماذا تحولت العلاقة بين المجتمع والسلطة إلى هذا المستوى من العدائية الذي لا يمكن اختزاله بقصة شباب الـ«فيس بوك» التي أدت المبالغة فيها في نظري إلى تسطيح ما يجري في المنطقة، وإلى وضع المزيد من الغشاوات على أسباب الفوران الحالي والقابل للاستمرار لزمن طويل.

الفراغات التي خلفتها الدولة ملأتها تلك المؤسسات التي تمارس دورا تعويضيا ماديا وروحيا، وبشكل خاص المؤسسات الدينية التي إلى جانب كونها اليوم المؤسسات الوحيدة داخل المجتمع المدني التي تتمتع بشبكة تأثير واسعة عبر المساجد أو الكنائس أو الحسينيات، تتمتع أيضا بتمويل أفضل من بقية مؤسسات المجتمع المدني عبر تبرعات الأغنياء في الداخل والخارج، وعبر نشاطات متعددة أخرى. بالطبع لم يقتصر الأمر على المؤسسات الدينية الرسمية التي تحظى برعاية الدولة، فغالبا ما يكون نفوذ مثل هذا النوع من المؤسسات في تراجع بفعل علاقتها مع سلطة مكروهة من معظم الناس، لكن هنالك مؤسسات غير رسمية تشكلت من دون دعم الدولة، وأحيانا بالرغم عنها. وفي الوقت الذي مالت السلطات إلى التساهل مع المؤسسات الدينية ونشاطاتها، أملا في أن يسهم مثل هذا النشاط في تهدئة المشاعر وفي توظيف التدين لصالح ترسيخ مفاهيم الزهد والتقوى، فقط لدى الشرائح الشعبية وليس لدى الطبقة الحاكمة، إلا أن السحر كثيرا ما انقلب على الساحر، لأن بعض هذه المؤسسات حالما ينجح في كسب الأتباع وبناء شبكات قوية ومتغلغلة، تتسع طموحاته ويسعى للتصرف بوحي من حجمه الجديد.

مع انهيار السلطة أو تراجعها يصبح الفضاء مهيأ لصعود كل الولاءات والتجمعات البديلة ولتصارعها مع بعضها؛ سعيا لإعادة تشكيل النظام السياسي الجديد بما يخدم مصالحها. وإذا كانت السلطة السابقة باعتمادها المفرط على العامل الأمني، سواء في العراق أو مصر أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، قد نجحت في فرض نوع من توازن الرعب، فإن انهيارها يخلق حالة من فقدان التوازن، كما يسمح بصعود المخاوف من المستقبل التي كثيرا ما تترجم بصراعات طائفية، لأن الهوية الدينية تمتلك قدرة على الحلول السريع محل الهوية الوطنية إذا ما ضعفت الأخيرة، ولأن التضامنات الطائفية تعكس صورة المدينة العربية اليوم التي لم تدخل مرحلة الدولة الوطنية المدنية الحقيقية، ولكنها غادرت مرحلة الريف والولاءات القبلية أو العشائرية الصرفة.

الانتماء الطائفي ينجح في التحول إلى انتماء مسيس حينما يشعر الأفراد بأن الطائفة هي ممثلة لمطالبهم، وأن منح الاعتبار لها يعني منح الاعتبار لأفرادها بالضرورة، وكلما حصل تحشد طائفي على جانب معين، سيحصل بالضرورة تحشد طائفي على الجانب الآخر، مما ينتج استقطابا اجتماعيا إذا لم تقم سلطة شرعية وكفؤة بديلة قادرة على احتوائه وتهدئته، فإنه سينفجر عنفا هنا وهناك، وسيقود العنف بدوره إلى مزيد من الاستقطاب تتصاعد معه النداءات الطائفية، ويغدو فيه مجال الحياد محدودا لا يمكن فيه سوى لأقلية صغيرة أن تصمد. الطائفية عندها تؤسس انتماء بديلا للوطنية، لأن الدولة حاملة وصانعة الفكرة الوطنية فشلت في أن تخلق هوية وطنية راسخة ونقية من التمييز.