مشعل تمو الرجل الذي فقدته سوريا

TT

غاب مشعل تمو اغتيالا في مشهد مأساوي، يلخص بعضا من المشهد الدموي الذي تعيشه سوريا منذ سبعة أشهر هي عمر أوسع حراك سياسي في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، كان من نتائجه حتى الآن سقوط عشرات آلاف الشهداء والمصابين بجروح وإعاقات، يضافون إلى عشرات آلاف المعتقلين والسجناء، ومثلهم من المطلوبين والملاحقين بسبب ما حدث في الأشهر الماضية.

وإذا كان اغتيال مشعل تمو تفصيلا في فاتورة الحراك السوري، فقد كان تفصيلا لا يمكن تجاوزه، بالنظر إلى أهمية مسار الحياة التي عاشها الرجل على مدار عقود من السنوات، والدور الذي قام به استنادا إلى منظومة فكرية وسياسية وأخلاقية، رسمت ملامح حياته ودوره في فترة هي بين الفترات الأصعب في تاريخ سوريا.

وحملت ولادة مشعل في إحدى قرى القامشلي عام 1957 لعائلة من السوريين الكرد دلالاتها الخاصة. فهي من الناحية الزمنية، تشير إلى تلاحم عميق بين المتشاركين في إطار الجماعة الوطنية السورية على نحو ما كانت عليه الحالة في خمسينات القرن الماضي، التي كان شعارها السوري الأول «الدين لله والوطن للجميع» في سياق سياسي هدفه تأكيد وحدة السوريين جميعا. وكان بين الدلالات واحدة خاصة، تتعلق باختيار اسمه الأول الذي اختير من قبل والده بإصرار وتأكيد للإشارة إلى علاقة وثيقة بين السوريين ولا سيما بين الكرد والعرب، الذين ربطتهم مع غيرهم الحياة بروابطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ليس في سوريا وحدها، وإنما على امتداد المنطقة ودولها، وقد كان لهذه الروابط عمق تاريخي، لا يقل أهمية عن عمقها الحالي.

وسط تلك الروح يمكن رؤية وفهم مسار الحياة والمواقف التي عاشها مشعل تمو كواحد من الشخصيات الوطنية السورية؛ إذ انشغل بهموم بيئته الإنسانية المحلية، فكان أحد نشطاء السوريين الكرد، قبل أن يندمج بداية العقد الماضي في سياق حراك ثقافي سياسي اجتماعي أوسع، مثلته تجربة لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا، التي ضمت مثقفين ونشطاء من مختلف مكونات الجماعة الوطنية، جعلت رابطها الأول هو المواطنة، وهدفها الأساسي تغيير حياة السوريين في شكلها ومحتواها، بنقل سوريا من النظام الأمني الاستبدادي إلى نظام ديمقراطي تعددي، يوفر العدالة والمساواة والمشاركة للسوريين جميعا في الحياة وفي إدارتها.

لقد أسهمت تلك التجربة التي كان مشعل تمو أحد صناعها في إثراء الحياة السورية في العقد الماضي، ودفعت كثيرين للتفكير في الشؤون العامة، التي كانت تبدو وكأنها سلوك من الماضي السحيق، ودفعت آخرين للمشاركة في أنشطة عامة، ولا سيما في ميدان المجتمع المدني ومنظماته، وخصوصا المنظمات المعنية بحقوق الإنسان والمرأة والطفل ومنظمات معنية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولم يمنع من ممارسة ذلك النشاط الطابع البوليسي للسلطة، وما يقيمه من موانع وعقبات في وجه الأنشطة الشعبية والمستقلة على وجه الخصوص.

وإذ ذهبت تجربة اللجان في سياق تنشيط العمل العام، ولا سيما في المجال الاجتماعي، فإنها لم تتوان في التأثير على الواقع السياسي، حيث شاركت في إجراء تبدلات سياسية جوهرية في الحياة السورية، ولا سيما في ميدان إعادة الاهتمام إلى السياسية بوصفها فعالية إنسانية ضرورية لحياة المجتمعات. وفي هذا السياق، جهدت من أجل انفتاح بين الجماعات السياسية العربية والكردية والآشورية، ومهدت لإقامة أول تحالف وطني واسع في عام 2005، حيث ولد إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، الذي ضم أوسع طيف من الجماعات السياسية والشخصيات المعارضة تحت هدف تغييري واضح.

لم تكن تجربة مشعل مقتصرة على هذا النسق الوطني العام، بل إنه سعى إلى تكوين تيار سياسي في أوساط السوريين الكرد باسم تيار المستقبل الكردي، يكون قريبا من النسق الوطني العام على طريق مشاركة السوريين الكرد الفاعلة باتجاه دولة لكل مواطنيها، تعطيهم حقوقا متساوية، وتعيد للمظلومين في عهود سابقة حقوقهم وما سلب منهم على طريق تأسيس نظام عادل يحميه الحق والقانون.

لقد بدت فترة اعتقال مشعل تمو في عام 2008 استنادا إلى أحكام سياسية غير قانونية، فترة اختبار لقناعاته ومواقفه، على الرغم من أن الرجل لم يكن بحاجة لاختبارات كهذه، بل هو أكبر من تلك الاختبارات، ولنحو سنوات ثلاث، كانت فترة اعتقاله ميدانا لممارسة تلك القناعات، فكان تواضعه وتواصله مع الآخرين إحدى أبرز ممارساته، بل إن إصراره على مساعدة الآخرين من ذوي الحاجة، بدا سلوكا عفويا وإجرائيا في يوميات سجنه، التي أضافت عمقا في محبته العظيمة للناس، بغض النظر عن انتماءاتهم ومناطقهم، ولعل ذلك بين أبرز العوامل التي جعلت مشعل تمو أحد شخصيات المعارضة السورية، التي يتجمع الناس حولها.

مشعل تمو، الذي عاش في كنف تلك الحياة وفي عمق تلك الأفكار، وفي سياق تلك العلاقات، كان من الطبيعي، أن يعلن فور خروجه من السجن بعد اندلاع ثورة السوريين المطالبة بالحرية والكرامة: الآن وفي ظل الثورة لن أكون إلا سوريا دون أي تفاصيل أخرى!