هل يعود عباس إلى طاولة المفاوضات؟

TT

في 2 سبتمبر (أيلول) من العام الماضي بدأت مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أميركية، بهدف الاتفاق على إقامة دولة فلسطينية وضمان أمن إسرائيل. وبعد نحو شهر من بدايتها، انسحبت القيادة الفلسطينية من المفاوضات ورفضت العودة قبل أن تلتزم الدولة العبرية بوقف بناء المستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي غياب عباس عن المفاوضات، استمر نتنياهو في بناء آلاف الوحدات السكنية في الضفة الغربية والقدس القديمة، دون أن تتمكن الرباعية الدولية أو الولايات المتحدة من إيقافه.

محاولة منها للخروج من هذا المأزق، قررت القيادة الفلسطينية الذهاب إلى الأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف بدولة فلسطينية عضوا كاملا على حدود 1967. ولعلمها أن قرار الجمعية العامة لا يمكن تنفيذه إلا بعد موافقة مجلس الأمن عليه، قررت القيادة الفلسطينية اللجوء إلى مجلس الأمن أولا لإحراج الولايات المتحدة وإسرائيل أمام الرأي العام العالمي. حاولت الإدارة الأميركية وممثلو الاتحاد الأوروبي إثناء الفلسطينيين عن اللجوء للأمم المتحدة، لكن هذه المحاولات زادت من إصرار محمود عباس على الذهاب إلى مجلس الأمن وحصل على دعم الجامعة العربية لموقفه.

في ذات الوقت رفضت حركتا حماس والجهاد - اللتان تسيطران على قطاع غزة - مطالبة عباس الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود عام 1967، مصرة على أن هذه الخطوة تعني التنازل عن أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. وجاء موقف حماس والجهاد مطابقا للموقف الإيراني، حيث قال وزير الخارجية علي أكبر صالحي في تصريحات للصحافيين على هامش المؤتمر الدولي الأول لما سمي بالصحوة الإسلامية، الذي انعقد مؤخرا في طهران: لا يمكن تجزئة فلسطين وتقسيمها إلى قسمين.. موقفنا الرسمي هو أن فلسطين ملك لكل الفلسطينيين ولن نوافق بأي شكل من الأشكال على تجزئتها ولن نعترف أبدا بالكيان الصهيوني.

ذهب عباس إلى نيويورك وفي لقاء له مع باراك أوباما أوضح له الرئيس الأميركي أن الطريق الوحيد لحصول الفلسطينيين على دولتهم لا يتم إلا عبر التفاوض مع إسرائيل، ودون هذا لن توافق واشنطن على عضويتهم في الأمم المتحدة، وسوف تستخدم حق الفيتو لهذا الغرض إذا اقتضى الأمر. وتدخل الرئيس الفرنسي محاولا حفظ ماء الوجه لكل من الفلسطينيين والأميركيين، واقترح ساركوزي إعطاء الفلسطينيين صفة الدولة المراقبة غير العضو، شرط قبول محمود عباس استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة، بما في ذلك شرط وقف الاستيطان.

رفض عباس جميع الضغوط وذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وشعر بالرضا والسعادة برد فعل المشاركين والحاضرين في جلسة الخطاب الذين اكتظت بهم القاعة وشرفاتها ووقفوا مصفقين له أكثر من سبع مرات. وأعلن عباس عن تسليمه طلب انضمام فلسطين لعضوية الأمم المتحدة إلى سكرتيرها العام بان كي مون. وحيا عباس كي مون لقوله إن «الدولة الفلسطينية كان يجب أن تقوم قبل سنوات»، وربما كان كي مون يشير إلى قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة في 1947 الذي أعطى الفلسطينيين حق إقامة دولتهم، وهم الذين قصروا في اتخاذ هذه الخطوة لمدة 63 عاما. وبينما كان عباس يلقي خطابه في نيويورك خرج عشرات آلاف الفلسطينيين في رام الله وباقي أنحاء الضفة الغربية احتفالا بخطاب رئيسهم الذي رفض الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية: «يتحدثون عن الدولة اليهودية، وأنا سأقول لهم إجابة نهائية: لن نعترف بالدولة اليهودية». وكان قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1947 ينص على حق اليهود في إقامة دولة لهم على أرض فلسطين. كما اعتبر عباس فلسطين أرضا مقدسة للمسلمين والمسيحيين فقط: «أرض فلسطين أرض الرسالات السماوية، مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومهد السيد المسيح عليه السلام».

بمجرد انتهاء عباس من كلمته دعت الرباعية – التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا - كلا من الإسرائيليين والفلسطينيين للعودة إلى المفاوضات، ووضعت جدولا زمنيا للتوصل إلى اتفاق بحلول نهاية العام القادم. وقالت الرباعية إنها تريد التوصل إلى اقتراحات كاملة خلال ثلاثة أشهر. فماذا سيكون موقف محمود عباس والسلطة الفلسطينية الآن، هل يعود الفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات دون شروط، وهل سيوافق نتنياهو على إيقاف المستوطنات هذه المرة؟

من الضروري أن يدرك الفلسطينيون من تجاربهم السابقة أن الفرص تتقلص أمامهم في كل مرة، وأن ما يرفضونه اليوم قد يصبح عصيا عليهم الحصول عليه غدا. فقبل بضعة أسابيع من نهاية ولايته، دعا بيل كلينتون ياسر عرفات وإيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التفاوض في كامب ديفيد. وعندما فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق، تقدم كلينتون بمقترحاته إلى الطرفين لقبولها. وبينما أبدى باراك استعداده للقبول، رفض عرفات مقترحات الرئيس الأميركي وأسرع عائدا إلى رام الله. كانت مقترحات كلينتون تتضمن أكثر مما يطلبه عباس اليوم: إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، الاعتراف بالسيادة الفلسطينية على الحرم الشريف، إعادة 95 في المائة من الضفة الغربية لتكون جزءا من الدولة الفلسطينية، توسيع قطاع غزة عن طريق إضافة جزء مجاور من صحراء النقب، والتخلي عن بعض المستوطنات الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية. كما تحدثت المقترحات عن عودة الجيل الأول من اللاجئين إلى إسرائيل، مع حق العودة لجميع اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية وتعويض باقي اللاجئين وتوطين من يرغب منهم في بلدان أخرى.

لو كان عباس قد استمر في المفاوضات في العام الماضي، لكان الطرفان قد توصلا الآن إلى نقطة تتطلب التدخل الدولي لحسمها، كما حدث في كامب ديفيد الثانية. عندئذ كان من الممكن للفلسطينيين الحصول على قرار دولي هذا العام يدعم مطالبهم. فهل يعود عباس الآن إلى طاولة المفاوضات، أم يضيع عاما آخر ويعطي فرصة جديدة لنتنياهو لبناء آلاف أخرى من المستوطنات في الأرض الفلسطينية؟!