سلفيون «سوبر مودرن» ولكن...

TT

«يا يسوع. يا يسوع. الشعب القبطي بقى موجوع. مش هانخاف. مش هانطاطي. إحنا كرهنا الصوت الواطي». هكذا هتف الأقباط وهم يحملون الصلبان بعد «معركة ماسبيرو» التي راح ضحيتها 24 قتيلا غالبيتهم من الأقباط. في المقابل، ثار سلفيون وتظاهروا ضاربين عرض الحائط بنداءات بعض مشايخهم للبقاء في البيوت، معتبرين أن المسيحيين اعتدوا على الجيش وأثاروا فتنة في البلاد. هذا المشهد الطائفي بامتياز الذي استشرى مخيفا على «فيس بوك» و«تويتر» يخشى ألا يكون خطرا على مصر وحدها. فالدول العربية التي ينقشع عنها غطاء الاستبداد، تشهد انفجارات لاحتقانات معتقة، لا تزال مكتومة الصوت. في ليبيا المشادات أصبحت أكثر من جدية بين محمود جبريل رئيس المجلس التنفيذي الذي يقود المعركة دوليا والإسلاميين الذين يقودون المعارك القتالية على الأرض وعلى رأسهم القيادي علي الصلابي. إذ إن هذا الأخير ما عاد قادرا على كتم غيظه. في تونس مربض العلمانية العربية وموئلها لم يتوان سلفيون عن مهاجمة محطة «نسمة» التلفزيونية والاعتداء عليها غضبا من فيلم «برسيبوليس»، بعد أن اعتبروه مسيئا لهم، كما هاجموا «جامعة سوسه» واعتدوا على عميدها، لأن الجامعة رفضت الاعتراف بامتحان لطالبة منقبة. الأمر ليس أفضل حالا في سوريا حيث النزاع الطائفي حاصل بالفعل، مهما حاول النظام نكران ذلك، أو سعى المعارضون لتجميل الصورة وتلميعها. في سوريا الجميع يداري المشهد، ويضيف عليه ما يناسبه من ماكياج، لتحقيق مآرب سلطوية حالية أو مستقبلية.

ليس جزافا أن يقود السلفيون في لبنان دون غيرهم، التظاهرات الأسبوعية الصاخبة ضد النظام السوري، «من أجل نصرة أهلنا في بلاد الشام». المتظاهرون لا يخجلون من المطالبة بإنقاذ أهل السنة المضطهدين على يد النظام العلوي، وكأن القمع لا يطال إلا فئة بعينها، فيما يعيش باقي الشعب راغدا مستجما.

التقليعة التي بدأت بحرب طائفية بين مسلمين ومسيحيين خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تفشت لتصبح عداء مرا بين السنة والشيعة بعد الحرب الأميركية على العراق بدءا من النجف وصولا إلى بيروت وصولا إلى غزة بتوجيه تهمة التشيع إلى حماس. وكي يكتمل الموزاييك التقسيمي، التهشيمي والتشظي، كان لا بد للسنة أنفسهم أن يتفتتوا ويتشتتوا، ليس فقط بين علمانيين وإسلاميين. فالإخوان باتوا مللا وشيعا ومدارس واجتهادات تناقض بعضها بعضا، رغم كل ما يقال عن قوتهم ورباطة جأشهم. أما السلفيون فهؤلاء قصة أخرى. فبعد أن كان السلفيون جهاديين تكفيريين قبل الثورات صار بعضهم، عصريين بعدها، ينافسون العلمانيين على انفتاحهم وتأوربهم ويسابقونهم على طلبهم للديمقراطية، كما يدعون. يبدو هذا للوهلة الأولى إيجابيا ومفرحا. وصدق أو لا تصدق، إلى جانب التكفيري الذي يهدم الكنيسة ويحرقها في مصر، هناك «سلفيو كوستا»، وكما يدل اسمهم، فهم متفرنجون و«مودرن»، يلتقون في مقهي «كوستا» المتأورب ويلعبون كرة القدم مع الأقباط، ويقبلون أن ينضم إليهم كل الملل والنحل التي تشاطرهم عشقهم للحوار والانفتاح، كما يعلنون على صفحتهم الفيسبوكية التي تضم 36 ألف صديق.

هذا النموذج ليس حكرا على مصر بل له شبيه في سوريا ولبنان. فلم يعد نادرا أن تلتقي في لبنان بسلفي يلبس الجينز ويصافح النساء، مع أنه ينتظم بحركة سلفية ويسمع دروس شيوخها الجهاديين القدامى في أفغانستان الذين باتت أولويتهم ما يحدث في المنطقة العربية وليس ما يدور في قندهار. هؤلاء السلفيون الـ«مودرن» أو الـ«سوبر مودرن» على طريقة زملائهم المصريين في «كوستا» يعتبرون أنفسهم إصلاحيين، مجددين، سيعيدون المجد للإسلام بحلة تجعله متصالحا مع الغرب، مندمجا في العالم الجديد، مقبولا من عموم شعبهم، دون أن يتخلوا عن مبادئ السلف الصالح. هنا تصبح المعادلة صعبة.

فهؤلاء السلفيون البازغون في عصر الثورات، يبحثون عن دور سياسي، يعتبرونه من حقهم كمواطنين في دولة يريدونها «مدنية». يقبلون بالذهاب إلى صناديق الاقتراع، وخوض انتخابات حرة ونزيهة. لكنك تسأل: وماذا لو وصلتم إلى السلطة؟ هنا يأتيك الجواب كالتالي. عندها يكون الشعب قد اختار الحكم الإسلامي. من الطبيعي، أن يفرض الحجاب، ويمنع ما يخالف الشرع، وتنتظم قوانين جديدة تناسب روح خيارات الناس. في الوقت نفسه يقول السلفي الذي أطرح عليه السؤال أنه يرى في رجب طيب أردوغان، سلفيا من الدرجة الأولى، وينسى أن أردوغان بوصوله إلى السلطة، لم يغير وجه تركيا الداخلي، وحافظ على النظام العلماني الذي أوصله إلى الحكم، كما سيضمن وصول مناوئين له يخالفونه، لا بل يتناقضون معه في التوجه.

فوضى عارمة ومرعبة في الأفكار والرؤى. وهي ليست بطبيعة الحال «الفوضى الخلاقة» -على الأقل على المدى المنظور - وإنما «فوضى هدّامة» يحق للمواطن القبطي والماروني والعلوي وحتى الكردي أن يخشاها، ويحزم حقائبه هربا من ألسن جحيمها.

كل ما كانت تتمناه إسرائيل من قيامها إلى اليوم، هو أن تغمض عين وتفتح أخرى، لترى الدول المحيطة بها عنصرية، أحادية الوجه والدين، على شاكلة نموذجها المتخلف والقبيح. العشق العربي الجارف للقبائلية والعصبية والمذهبية، يلاقي الرغبة الإسرائيلية ويعانقها. مبروك على العرب ثوراتهم سلفا. إنهم يوشكون، للأسف، على الرسوب في الاختبار.