ولست يساريا!

TT

أذكر أن د. عبد الرحمن بدوي كتب مقالا عن كتابي «وداعا أيها الملل»، وعن الدراسات التي كتبتها عن «مسرح العبث»، وقال عبارة مشهورة: لو لم يدرس الفلسفة الوجودية ما استطاع أن يكتب بهذا الوضوح والإقناع.. وكان يتوجه بهذه العبارة إلى د. لويس عوض الذي رأى هو أيضا في دراساتي عن سقوط الحائط الرابع شيئا جديدا في النقد وعلم الجمال..

وعندما أصدرت كتابي «الحائط والدموع» عن اليهود وإسرائيل والصهيونية والصراع العربي، كنت أقصد بالحائط حائط المبكى.. وبالدموع دموع اليهود عند هذا الحائط..

وعندما أصدرت كتابي «كرسي على الشمال»، فسرت اختيار هذا العنوان بأنني كنت أذهب إلى دار الأوبرا وأجلس دائما على اليسار.. وأنني أحب الجلوس إلى اليسار في أي مكان.. مع أنني لست يساريا أو أنني معتدل في هذا اليسار.. فالجلوس إلى اليسار ليس تجسيدا عمليا لفكر سياسي.. وإنما التفسير الوحيد الذي اهتديت إليه في ذلك الوقت هو أنني اعتدت أن يكون مقعدي هكذا.. ولا أعرف كيف بدأ؟!

واهتديت إلى معنى آخر هو أن عيني اليمنى أضعف من اليسرى.. ولذلك فإنني أنظر إلى اليمين عادة.. وهذا يجعل المسافة الضوئية أمام العين اليمنى أقصر من المسافة أمام العين اليسرى.. ولو نظرت إلى شيء إلى يساري لكان ذلك مرهقا للعين اليمنى ومريحا لليسرى.. ولما كانت اليمنى هي التي لا تستطيع أن تجاري اليسرى.. فقد كان التوازن البصري يخفف العبء على اليمنى.. فأجلس إلى اليسار وأنظر..

ووجدت ذلك مقنعا، أو إنني اخترت هذه العناوين لمعنى وجدته قريبا.. ولكن عندما عاودت التفكير في اختيار كلمة «الحائط» اهتديت إلى المعنى الحقيقي.. فقد كنت أسكن في مدينة إمبابة وأنا طالب في الجامعة، عضو في جماعة الإخوان المسلمين، قريبا من مسجد سيدي إسماعيل الإمبابي - مشغولا بفتاة لها عينان جميلتان لا تقرأ ولا تكتب، وكنت أقول: يا رب ما الذي تفعله هذه البائعة بعينيها – إن أصغر شيء تراه في حجم البطيخة.. وأنا أكبر شيء أراه بعيني في حجم النملة! يا رب إنها حكمتك التي غابت عن حكمتي!

وكنت أهلوس في أثناء النوم فأتخيل نفسي حصانا ينام واقفا.. أو أتصور نفسي وطواطا يظل يدور في الغرفة.. ويقال إن الوطواط يستطيع أن ينام وهو يدور.. وتمنيت لو كان كل الناس وطاويط يمسكون بعضهم ببعض على شكل حبل طويل يمتد من جدران هذا البيت إلى جدران البيت المقابل.. وكان الهنود يتخيلون أن الآلهة كانوا يقطعون المسافة بين الهند وجزيرة سيلان على ظهر ملايين الوطاويط التي تماسكت بين البلدين!