حكاية لم يتخيلها حازم الببلاوي.. وهو يستقيل!

TT

قد نعرف، إلى هذه اللحظة، لماذا قرر الدكتور حازم الببلاوي، نائب رئيس الوزراء وزير المالية المصري، الاستقالة، فجأة، الأسبوع الماضي، في أعقاب «أحداث ماسبيرو» الشهيرة، التي دارت فيها معركة بين عدد من الأقباط من ناحية، وبين قوات من الأمن والجيش من ناحية أخرى، أمام مبنى التلفزيون على كورنيش النيل، وسقط فيها ضحايا كثيرون قتلى ومصابين.

قد نعرف لماذا استقال الرجل.. أقول قد.. لأن الأسباب التي أعلنها من ناحيته، وهو يستقيل، كانت أسبابا سياسية خالصة في ظاهرها، وكان يقول وهو يشرح مبررات الاستقالة لنا، إنه يشعر بأن حكومة عصام شرف، التي يظل هو - أي الدكتور حازم عضوا فيها - قد قصرت بشكل فادح في التعامل مع الحدث، وفي واجبها في حماية المصريين أثناء وقوعه، وبالتالي، فإن الوزير قد استشعر من جانبه حرجا، باعتباره عضوا في الحكومة، وأحس بأن هناك مسؤولية عليها، كحكومة، وعليه هو أيضا بالتبعية، تجاه ما حدث، وإذا لم تكن هي تريد أن تمارس مقتضيات مسؤوليتها هذه، وإذا كانت تتغافل عنها، دون خجل، وإذا كانت تتصرف وكأن شيئا لم يحدث، دون حياء، وإذا كانت.. وإذا كانت.. إلى آخره.. فإنه، كنائب رئيس وزراء، أولا، ثم كوزير، ثانيا، ثم كمواطن ثالثا، قد أراد أن يخلي مسؤوليته ويستقيل، لعله يرسي قيمة غائبة في حياتنا السياسية، وهي قيمة الإحساس بالمسؤولية، لدى المسؤول، على أي مستوى، واستعداده لرفع شأن هذه القيمة في أي وقت، بأن يقف أمام الناس، ويعترف بتقصير وقع منه، ويعلن استقالته على الملأ.

حدث هذا، أمام الجميع، وكان الدكتور حازم، وهو يذيع استقالته، ويوضح أسبابها، يريد أن يقول بوضوح، إن الذين سقطوا أمام مبنى التلفزيون (ماسبيرو) مواطنون مصريون أولا وأخيرا، بصرف النظر تماما، عما إذا كانوا أقباطا أو مسلمين.. إنهم مصريون.. وهذا يكفي جدا في نظره، وفي نظر أي إنسان عاقل.

ولكن موقفا عابرا، كان كاتب هذه السطور طرفا فيه، مساء يوم الاستقالة، يكشف عن بعد آخر للموضوع، ويشير لنا إلى أن استقالة نائب رئيس الوزراء، وزير المالية، قد وقعت لدى مواطن مصري، موقعا لا نتخيله، ولا نتصوره، ولا نريده.. لا نحن.. ولا هو.. كنت أشتري بعض حاجاتي من «فكهاني» في حي من أحياء القاهرة، وكان قد وقف يشاهد تلفزيونا صغيرا في المحل الذي يملكه ويبيع للناس فيه، وكان الدكتور حازم، في لحظتها، يتحدث في برنامج على الشاشة عن استقالته، وإذا بصاحب محل الفاكهة يتطلع إليه، ثم يسألني في حيرة، عما إذا كان الوزير قبطيا أم أنه مسلم!

طبعا التبس الأمر على المواطن إياه، ولم يستطع مسبقا أن يتبين من اسم الوزير، ما إذا كان قبطيا أم مسلما، فلا اسم «حازم» يقطع بشيء في هذه المسألة، ولا حتى «الببلاوي».. كان المسكين حائرا، ولا يعرف ديانة الوزير بالضبط، وكان يريد، من خلال ما بدا من حيرة في طريقة سؤاله، أن يقع على إجابة للسؤال الحائر.. وبطبيعة الحال، فإن السؤال غاظني، بمثل ما يغيظني في كل مرة أسمعه فيها، ولا أستطيع أن أفهم إلى الآن، كيف يمكن لأي إنسان أن يحدد موقفه من إنسان آخر في الحياة، بناء على ديانته، وليس على أي شيء آخر!.. كم من مرة سمعت فيها هذا السؤال، وكنت في كل مرة أشعر بضيق بلا حدود، وكان يغيظني أكثر، أن أسمعه من متعلمين ذهبوا إلى الجامعة، والمفروض أنهم تعلموا فيها، ولكنهم، مع ذلك، كانوا يتصرفون حين يسألون سؤالا من هذا النوع، وكأنهم لا تعلموا، ولا ذهبوا إلى جامعة، ولا إلى مدرسة!

الشيء العجيب، أن الفكهاني صاحب السؤال، قد حزن، عندما عرف مني أن الدكتور حازم مسلم، وكان مبعث حزنه أنه سمع أن الوزير قد استقال احتجاجا على سوء إدارة الحكومة لأزمة «ماسبيرو»، وعدم قدرتها على حماية الذين سقطوا فيها، سواء كانوا مصابين أو قتلى.

كان صاحب السؤال يفهم الموضوع على نحو مختلف، وكان يرى، كما فهمت منه، أن الذين أصيبوا، أو سقطوا قتلى، إنما هم أقباط على حد علمه، وبالتالي فما علاقة وزير مسلم بالموضوع.. هكذا كان يتكلم، وهكذا سمعت منه.. ثم هكذا أيضا حزنت للغاية، لا لشيء، إلا لأني كنت أتصور أنه كان عليه أن يتكلم كمواطن، أولا وأخيرا، وأن يفهم أن الذين راحوا ضحايا للحادث مواطنون مثله سواء بسواء، فلا هو أعلى منهم، بسبب ديانته المسلمة، ولا هم أقل منه، بسبب ديانتهم القبطية.

ولكن.. هذا ما حدث، وهذا هو ما يظل مشهدا كاشفا في كل الأحوال، لأن الذين يصدعون رؤوسنا ليلا ونهارا، في الحديث عن «المواطنة» كمبدأ، وكيف أنها تساوي بين جميع المصريين، في حقوقهم وواجباتهم.. هؤلاء الذين يتكلمون عن المواطنة، بوصفها مبدأ مفروغا منه، لا بد أن يعرفوا، أن رجل الشارع من النوعية التي دار بيني وبين أحد أفرادها ذلك الحديث العابر، له رأي آخر في الموضوع، ويتصرف في حياته وفقا له، ولا تصل إليه أحاديث المواطنة في كل الأحوال.

قد يكون الرجل المسكين، الذي فاجأني بالسؤال الحائر، معذورا، لأنه، فيما يبدو، غير متعلم، ولم يذهب إلى أي مدرسة، فضلا عن أن يكون قد ذهب إلى الجامعة.. قد يكون معذورا، لأنه لم يجد مدرسة تعلمه، ولا جامعة.. ولكن المشكلة أنك لا تواجه سؤالا كهذا، منه وحده، وإنما تسمعه وتصادفه كثيرا من رجال ذهبوا إلى الجامعة، وتعلموا تعليما عاليا، ومع ذلك، تفاجأ بأن التعليم لم يضف إليهم شيئا، في هذا الاتجاه، بل إنه، والحال كذلك، قد نال منهم وانتقص، لأن المفترض أن الإنسان على فطرته الأولى، لا يفرق في الحياة، بين إنسان وآخر، على أساس الديانة، فإذا به، بفطرته، وبتعليمه، يفرق، ويظل يتحرى طوال الوقت، عما إذا كان الواقف أمامه مسلما، أم أنه غير مسلم!

كنت أتوقع أن يكون السؤال من المواطن الحائر، عما إذا كان الدكتور حازم قد استقال، لأن المناخ الذي يعمل فيه الوزير لا يسعفه في تحقيق مبادئه التي عاش كأستاذ كبير يكتبها وينادي بها، وكنت أتخيل أن المواطن الحائر سوف يكون مهموما، لأن وزير المالية قد استقال لأن أحدا لم يساعده في إقرار مبدأ العدالة الاجتماعية بين المصريين، وهو مبدأ كان قد نادى به، منذ يومه الأول في الوزارة، وأقسم على أنه سوف يسعى إلى وضعه موضع التنفيذ على الأرض.. وكنت أتصور أن المواطن الحائر، سوف يكون مهموما لأن نائب رئيس الوزراء، وزير المالية، قد كافح منذ أول يوم له في الوزارة، من أجل وضع حد أقصى للأجور مع حد أدنى، ولكنه لم يستطع.. وكنت.. وكنت.. فإذا بالمواطن الحائر، مهموم، لسبب واحد، بل وحيد، هو أن الوزير مسلم، ومع ذلك، راح، ينتصر لأقباط، ويحزن من أجلهم، ويستقيل، ويغضب، ويصمم على ترك موقعه الوزاري!

كنت أتصور هذا كله، وأتخيله، وأتوقعه، وأراه شيئا طبيعيا، لا يقبل النقاش، ولا الجدل، ولا المساومة، فإذا به، أيضا، محل جدل، ونقاش، ومساومة!

إنه مشهد كاشف في حكاية الوزير الببلاوي، من أولها إلى آخرها، وإذا كان يدل على شيء، فإنما يدل على أن هناك فجوة عميقة، بين ما نقوله، وبين ما نمارسه، كمجتمع.. وإذا كانت هناك مسؤولية تقع على جهة، في اتجاه ردم هذه الفجوة، فإنها تقع أول ما تقع على التعليم، في الأول، ثم على الإعلام، في الآخر.. فلا جهة سواهما قادرة على خلق إنسان مختلف، عن ذلك المواطن الحائر الذي صدمني!