العنف الثقافي وبناء الدولة بعد الثورة

TT

تجربة جنوب أفريقيا في فترة العنصرية جديرة بالتأمل لتفادي مطبات الثورات العربية، خصوصا في ما نراه الآن من موجة العنف الثقافي. وبـ«العنف الثقافي»، أعني إجماع أغلبية ما مسيطرة أو حاكمة على مفاهيم تكون العنصرية أو الطائفية أو التحيز أساسيا فيها.

فمثلا؛ كانت جنوب أفريقيا قبل الثورة دولة عنصرية بامتياز كما الحال في إسرائيل اليوم، حيث كان البيض ينظرون إلى السود نظرة دونية تبناها الكتاب البيض والمفكرون البيض، فشكلت رؤية للإنسان الأبيض تجاه الرجل الأسود والمرأة السوداء.

هذه النظرة التي تقول بعدم المساواة في المواطنة، جعلت جنوب أفريقيا تبني محاكم ظالمة، وتتبنى قوانين ظالمة، ولا ذنب للقضاة الذين يحكمون على السود بأغلظ الأحكام، لأنهم ينطلقون في أحكامهم من قوانين ظالمة.

الشيء نفسه في إسرائيل الآن؛ فالنظرة الإسرائيلية للعربي والفلسطيني هي التي شكلت وعي اليهود في بناء نظام قانوني ظالم، فقد يحاكم الفلسطيني أمام محكمة إسرائيلية تبدو شكليا أنها تتبنى كل شكليات المحاكمات العادلة؛ فهناك محام تعينه الدولة للدفاع عن الفلسطينيين، وهناك من هؤلاء المحامين من اليسار الإسرائيلي الذي يتبنى قضية الدفاع عن العرب.. ومع ذلك، يكون الحكم جائرا، وذلك لأن القوانين في الأصل ظالمة. ومن هنا، يبدأ حديثنا عن العنف الثقافي.

بـ«العنف الثقافي» أعني أن ثقافة ما تكون قد شيطنت مجموعة من البشر أو جعلت منهم شياطين، فيصبح قتلهم أو إبادتهم أمرا مرغوبا فيه، أو أن الإنسان لن يرى في هذا القتل أي شيء يحرك ضميره، لأن الضمير قد مات نتيجة لتراكم ثقافي؛ كان عنصريا أم طائفيا أم متحيزا من أول القصة.

الإنسان بشكل عام غير قادر على قتل الروح إلا بعد شيطنتها، أي تحويل العدو المخالف إلى شيطان، ساعتها نقتله ولا نزرف دمعة ندم واحدة، لأننا نظن أننا قتلنا الشر كما وصف لنا حسب الثقافة التي نعيش فيها، لذلك يقتل الإسرائيليون كل يوم أعدادا من الفلسطينيين ولا يحرك ذلك ساكنا عند جمهور، يقول الغرب، إنه بلد حديث ومتحضر. الشيء نفسه كان يحدث في جنوب أفريقيا وفي أميركا قبل الستينات من القرن الماضي؛ حيث كان يعلق الرجل الأسود في الشجرة ويضرب حتى الموت.

بالطبع، فعلة شنيعة كهذه لا يقبلها العقل السوي، ولكن بعد شيطنة السود أصبح البيض يرون في موتهم ضربا نوعا من التخلص من الشر. الرجل الأبيض الذي كان يقتل الأسود في أميركا أو جنوب أفريقيا هو أيضا ضحية ثقافة قالت له بأنه سيثاب إن قتل الرجل الأسود. فالسواد هو مصدر الشر والفتنة والغواية، والتخلص منه أمر ضروري.

الشيء نفسه نمارسه في أوطاننا من زوايا التكفير، فلا يستطيع المسلم السوي قتل أخيه المسلم إلا بعد أن تتبنى ثقافة ما فكرة التكفير، وبعد أن يكفر المرء لن يشارك في قتله رجل واحد، وإنما نفر من الناس سيرون في قتل الكافر خدمة للدين.

هذا هو جوهر الخطاب الجهادي، وهو ليس حكرا على المسلمين، وإنما حضارات كثيرة تبنت خطاب تسويد وجه العدو لتحفيز الإنسان على قتل أخيه الإنسان.

الجيوش تتبنى في عقائدها شيئا أقرب إلى العنف الثقافي في بناء فكرة العدو؛ فالمقاتل لا يرى عدوه إنسانا، بل يراه وحشا يريد قتله فيقتله أولا. إذن، لكي يكون القتل سهلا على إنسان سوي ولد بالفطرة رافضا لفكرة القتل، تشحن الدول والجيوش أبناءها بالكراهية للآخر وتشوهه حتى يسهل قتله.

في ثوراتنا العربية التي بدأت مشرقة كشمس جديدة في صباح صاف، بدأت فكرة العنف الثقافي تتغلغل فيها، أي إننا بدأنا في رسم ملامح من نكره.. المختلف القريب مثل القبطي في حالة المصري المسلم، أو الأجنبي في حالة «بتوع الأجندات الخارجية»، أو المصري الذي لا يعيش في مصر، أو غير ذلك. هؤلاء هم المسؤولون عما يحدث لمصر. أما مصريو الداخل، فهم ملائكة لا يرتكبون حماقات أبدا، لا بد لفئة مندسة أن تكون هي التي قامت بالقتل وبالتعذيب.

هذه الرؤية سيبنى عليها نظام كامل من القوانين والمحاكم؛ رؤية تجعل من هذه القوانين وتلك المحاكم تأسيسا لظلم من نوع جديد؛ لا إقامة عدالة جديدة. العنف الثقافي الذي نراه في الصحف والتلفزيونات سيشكل وعي من سيكتبون الدستور في مصر أو في غيرها، ليضعوا بذلك دساتير طائفية، تقام عليها محاكم متحيزة، ولن يكون للقضاة فرصة في إنصاف المظلوم لأن القوانين المطلوب من القاضي إعمالها هي في الأصل قوانين مجحفة.

الثورة تبدأ بالعقل، وإن لم يتغير الـ«سوفت وير» الحاكم للعقل، فلن يكون هناك عدل.. العدل يتحقق عندما تكون القوانين عادلة ومستقاة من ثقافة عرف عنها العدل. أما أن تبقى القوانين ذاتها ونقول إننا نطبق العدل، فهذا كلام لا يليق بمن مفترض أنهم تعلموا شيئا في الدنيا.

حتى الآن ثورات خلعت الديكتاتور في حالات مصر وتونس وليبيا، وتحاول في اليمن وسوريا، ولكن بعد خلع الديكتاتور لم تتغير المنظومة القيمية للمجتمع، فقط تغير الأشخاص وبقي النظام كما هو. لا أقول أبدا إن مصر مثلا هي جنوب أفريقيا في وقت الفصل العنصري، ولكن أقول بأنها ليست ببعيدة جدا عنها أيضا.

الثورة تبدأ بالعقل، وحتى الآن تثورت الشوارع عندنا ولم تثور العقول، فالتحيزات غير المقبولة في العالم المتحضر ما زالت تعشش في عقولنا، ولكي نبني مجتمعا قائما على العدل، لا بد أن نفكك القوانين الظالمة أولا، فلا داعي لاتهام قاض ينفذ أحكام قوانين متحيزة.. القاضي ليس هو المسؤول؛ بل ثقافتا والقوانين الناتجة عنها هي المسؤول الأول عن تحيزاتنا.