مستقبل الإسلام السياسي

TT

فتحت الثورات العربية، مجددا، النقاش حول مستقبل التيارات الإسلامية أو ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الغربية والأجنبية بالإسلام السياسي، وربما يعتبر هذا المصطلح، على هناته، الأكثر دقة وحيادا من بين المصطلحات الرائجة في الحقل الأكاديمي والمجال السياسي الإعلامي، فكل المؤشرات السياسية القائمة اليوم تبين، على سبيل اليقين، أن الإسلاميين سيكون لهم موقع متقدم في الخارطة السياسية العربية، وخصوصا في الأقطار التي أنجزت ثوراتها، كما هو الحال في تونس ومصر وليبيا، أو تلك التي في طريقها نحو التحول الثوري، كما هو شأن سوريا واليمن، الحقيقة أن ثمة قوتين رئيسيتين لا بد من أن تتركا بصماتهما في السنوات المقبلة، إن لم أقل في العقود المقبلة في المنطقة، هما الجيش والإسلاميون.

منذ أن كتب الباحث الفرنسي أليفي لي روا كتابه الشهير «فشل الإسلام السياسي» في تسعينات القرن الماضي، طارت هذه المقولة بين الأكاديميين والسياسيين والصحافيين الغربيين وحتى العرب، وقد بنى أليفي لي روا استنتاجاته على فشل الإسلاميين الجزائريين في الوصول إلى السلطة وإسقاط الحكم الجزائري، الذي أبعد الجبهة الإسلامية للإنقاذ عن السلطة، وتدخل الجيش لإلغاء نتائج انتخابات سنة 1991. ولعل أكبر عيوب لي روا، كما هو شأن أغلب الكتاب الغربيين، هو أنهم يركزون أنظارهم على الجماعات العنفية الصاخبة، كـ«القاعدة»، أو المجموعات المسلحة، أكثر مما يقرأون التعبيرات الرئيسية في الإسلام السياسي، وهكذا يغدو فشل «القاعدة» أو الجماعة الإسلامية المسلحة في مصر، مثلا، دليلا ساطعا على تراجع الإسلام السياسي واقتراب غروبه من الساحة، بيد أنه ما إن يرقد هؤلاء الباحثون الغربيون على وسادة مقدماتهم النظرية، حتى تفاجئهم الساحة بصعود حركات الإسلام السياسي مجددا، فتجدهم يقفزون من الواقع إلى التنبؤات المستقبلية بناء على حتميات فيبرية (نسبة إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر) تقول إن الاندفاعات الدينية لن تصمد كثيرا أمام إكراهات العالم الحديث المعقلن، والمعلمن حتى النخاع.

طبعا ما ذكره أليفي لي روا، أو زميله الفرنسي.... ليس كله خطأ، بيد أنه بكل تأكيد لا يخلو من الأوهام والرغبات الذاتية، فليس لدينا ما يبين فعلا أن صوت، أو أصوات، الإسلام السياسي في طريقه نحو الغروب، أو هو في حالة انحسار وتراجع، بل إن الواقع الراهن يبين أنه في حالة تمدد وصعود، بغض النظر عن أسباب هذا الصعود، وما إذا كان يمكن إرجاعه إلى الإخفاق السياسي أو التهميش الاجتماعي، أو حتى إعاقة حداثية علة ما يقول هؤلاء.

الحقيقة أن ظاهرة الإسلام السياسي بالغة التركيب والتنوع، وهي تمتد على قوس طويل من طيب أردوغان وراشد الغنوشي وعمرو خالد، إلى الملا عمر وأيمن الظواهري، والفوارق بين هؤلاء قد تكون أوسع حتى ما بين ما بات يعرف بالإسلاميين والعلمانيين، وعليه يبدو من الخطأ الفادح قراءة ظاهرة الإسلام السياسي من خلال بعض التعبيرات العنفية الصاخبة، التي هي منتج أزمة أكثر مما هي تعبيرة حقيقية راسخة، كما أنه يبدو لي أن مسار الإسلام السياسي هو مزيج مركب من النجاح والفشل، ومن الصعود والنزول. الواضح أن الإسلاميين كلما اقتربوا من الدولة، كانت مساحة إخفاقاتهم واسعة، وكلما اقتربوا من المجتمع والعمل الشعبي العام، كان نجاحهم واضحا، وهذه المسألة لا يمكن إرجاعها بالكامل إلى مجال الآيديلوجيا وعالم الأفكار، بقدر ما يمكن إرجاعها إلى توازنات الواقع وموازين القوة على الأرض، فضلا عن بنية الدولة الحديثة التي ليس من اليسير تطويعها وأسلمتها على النحو الذي تتصوره الحركات الإسلامية. الإسلاميون السودانيون فشلوا فعلا، ليس فقط لأنهم بنوا نظرة طهورية وشكلانية لموضوعة الدولة فقط، بل لأنهم قد ورثوا دولة هشة وتنخرها الانقسامات الإثنية والدينية، وقد أوهنهم أكثر نظام دولي بالغ الشراسة ومحيط إقليمي طوح بهم في متاهات الانقسام الداخلي ما بين المشير العسكري والشيخ المنظر، فقد راهن الإسلاميون السودانيون على أسلمة الدولة، ولا أريد أن أتحدث هنا عن تجربة طالبان التي هي أقرب إلى الإسلام التقليدي البريولي... منه إلى الإسلام السياسي الحديث.

الإسلاميون الإيرانيون الذين ورثوا دولة قومية كبيرة، قد أعادوا إنتاج هذه الدولة في مزيج من القومية الفارسية والشيعية الاثني عشرية، يختلط أداؤهم السياسي بمقادير من النجاح والفشل، وهم إلى حد الآن ما زالوا يعانون من معضلة التجاذب بين مرجعية الشعب ومرجعية الولي الفقيه، ولم يتلمسوا بعد طريقا معينا نحو الاستقرار، بيد أنني أتصور أن الإسلاميين الإيرانيين، ومهما كان فورانهم الثوري واندفاعاتهم الآيديولوجية، لن يتجاوزا حدود الفضاء الفارسي الشيعي. أما الإسلاميون الأتراك فهم قد شقوا مسلكا آخر في مجال التجربة السياسية من دون أن تكون لهم أدبيات سياسية تذكر، ولعل هذا الجانب يمثل عناصر الضعف بقدر ما يمثل عناصر القوة عند الإسلاميين الأتراك، من نجم الدين أربكان إلى طيب أردوغان وعبد الله غل، فغياب السند الفكري قد طبع الإسلاميين الأتراك بملمحي البرغماتية والمرونة وخفف من نزوعاتهم الآيديولوجية، ولكنهم على الجهة الأخرى لم يقدروا على بلورة مدرسة فكرية محددة المعالم والشخوص، هذا إذا استثنيا كتابات داود أوغلو التي تظل أقرب إلى الباحث الأكاديمي منها إلى المنظر الفكري والسياسي. مع واجب التحفظ هنا على تصنيف جماعة العدالة والتنمية ضمن دائرة الإسلام السياسي.

أما إذا تناولنا أداء الإسلاميين على صعيد المجتمع، وتحديدا في مجال العمل الثقافي والشعبي، فإن سجل مقادير النجاح يبدو هو الأبرز هنا، قل وندر أن تجد اليوم قطاعا من قطاعات المجتمع لما يلامسها شيء من أثر الإسلام السياسي من الطلاب، إلى الجامعيين، إلى قطاعات الأطباء والمهندسين، إلى العمل الإغاثي والخيري وغيره. الحقيقة أن ظاهرة الإسلام السياسي هي استجابة مركبة لتحديات الحداثة بمكاسبها وإخفاقاتها أيضا، فخلافا لما شاع في الأدبيات الغربية من أن الإسلاميين يمثلون اعتراضا أو احتجاجا على الحداثة، هم في الحقيقة منتج الحداثة، بل إن ظاهرة الإسلام السياسي تتقدم في المجتمعات التي لامسها التحديث، وفي الأوساط الاجتماعية الحديثة أكثر مما هي مؤثرة في القطاعات التقليدية.

الخلاصة من كل ذلك، أن الإسلام السياسي ليس ظاهرة مكتملة وناجزة، بل ظاهرة متحركة ومتغيرة، وربما يفاجأ الكثير من حجم المراجعات والتغييرات التي يقدم عليها الإسلاميون طوعا أو كرها نتيجة ضغط المحيط والشعور بالتحديات. في ثمانينات القرن الماضي كان مطلب الأسلمة والشريعة هو الغالب على خطاب الإسلاميين، بيد أنه مع ضغط السردية الديمقراطية ودخول الإسلاميين إلى المعترك السياسي، فقد أضحوا أكثر ميلا للقبول.