فلسطين والعرب.. علاقة لا فكاك منها

TT

يشكل موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي موضوعا استراتيجيا دائم الحضور، أمام كل دولة عربية، وأمام كل سلطة مهما كان نوعها. وبسبب ذلك وُجدت الحركة النضالية الشعبية ضد إسرائيل، وكانت هذه الحركة النضالية الشعبية فلسطينية تارة، وعربية تارة أخرى، وشكلت هذه الحركة النضالية وسيلة الاستمرار في مواجهة التحدي الإسرائيلي. وكانت وسيلة العمل عسكرية (فدائية) في معظم الأحيان، وسياسية في بعض الأحيان، سواء عبر اتفاق أوسلو، أو عبر منهج العمل السياسي الذي تتبناه السلطة الفلسطينية حاليا.

الآن.. ثمة ظروف ووقائع تتيح طرح السؤال: هل وصل العمل الوطني الفلسطيني، سواء من خلال منهجه العسكري، أو من خلال منهجه السياسي، إلى طريق مسدود؟

محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، هو صاحب نظرية التفاوض ثم التفاوض. ولا نريد هنا أن نناقش صحة هذا المنهج أو خطأه، لكننا نريد تتبع حركته فحسب. فهو من موقعه وضع منهجه موضع التطبيق، أولا مع إسرائيل حيث العمل السياسي المطلوب. ولكن ما ظهر منذ اللحظة الأولى أن القيادة السياسية الإسرائيلية ليست مستعدة وليست جاهزة لأي تفاوض سياسي. فهي منذ اللحظة الأولى وضعت شروطها الخاصة للبدء في هذا التفاوض السياسي، وكانت شروط إسرائيل تعني فرض النتائج التفاوضية سلفا لصالحها، وهو ما لا يمكن أن يستقيم معه أي تفاوض. طلبت إسرائيل أن يبدأ التفاوض حول بند الحدود، وذلك حتى لا تسلم سلفا بأن التفاوض لا بد أن ينطلق من مبدأ حدود عام 1967. ومضت أيام وأسابيع من دون أن يتغير هذا الموقف الإسرائيلي، وبالطبع من دون أن تبدأ عملية التفاوض.

ورغم هذه النتيجة، لم ييأس الرئيس عباس من متابعة منهج التفاوض، وكان أن حاول هذه المرة أن ينقل الموضوع إلى الإطار الدولي، فأصر على طرح موضوع عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن. ودارت هنا حرب دبلوماسية دولية، وأعلنت إسرائيل رفضها للموضوع من حيث المبدأ، ودعمتها الولايات المتحدة الأميركية، وهي رفعت هنا شعار التفاوض كمدخل وحيد في أي قضية مطروحة. ومن خلال جو التحدي هذا، أصر محمود عباس على موقفه، وذهب إلى الأمم المتحدة، وألقى خطاب فلسطين هناك، طالبا من مجلس الأمن أن يقر عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة.

شكل الذهاب إلى الأمم المتحدة نجاحا للسلطة الفلسطينية. وشكل إلقاء محمود عباس لخطابه نجاحا إضافيا. ولكن بعد ذلك مباشرة بدأت المشكلة. فالطلب الرئيسي في الخطاب، أي قبول عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، أحيل إلى مجلس الأمن، وأحاله مجلس الأمن إلى لجنة العضوية، وهنا برز الاجتهاد المضاد الذي يقول بأن العضوية في مجلس الأمن هي للدول فقط، ومنظمة التحرير الفلسطينية ليست دولة. وبهذا وصل التحرك السياسي الجديد إلى حائط مسدود.

على الجانب الآخر، يقف منهج العمل الفدائي الفلسطيني كوسيلة عسكرية فلسطينية تتحدى دولة إسرائيل. وقد أثمر العمل الفدائي عن إبقاء القضية حية، وعن إبقاء الوضع الدولي متحفزا يراقب ما يجري، ويحاول أن يضغط باتجاه نتيجة ما. وبفضله وافقت إسرائيل أن تذهب إلى التفاوض، ووافقت منظمة التحرير على أن توقف العمل الفدائي ضد الاحتلال، ثم أثمرت هذه السياسة عن اتفاق أوسلو عام 1993. وهنا تم إيقاف العمل الفدائي بينما لم تثمر المفاوضات عن نتيجة ما في عهد الرئيس الفلسطيني عرفات، وفي عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 2000.

في هذه الأثناء حاول عرفات بين عامي 2000 و2002 أن يدمج بين العمل الفدائي والمقاومة، لكن فرض الحصار عليه من قبل إسرائيل في مقر إقامته في رام الله - ثم جاء مرضه ووفاته فأنهيا هذه المرحلة من دون نتائج.

وحين تولى الرئيس محمود عباس رئاسة السلطة، حاول من جانبه أن يجعل من موضوع التفاوض أساسا للعمل، تشجيعا لإسرائيل على القبول. ومع ذلك فإن محاولته هذه لم تثمر. وهنا عاد موضوع العمل الفدائي ضد الاحتلال ليفرض نفسه من جديد، وكانت حركة حماس المعارضة، والمتبنية لمنهج العمل الفدائي، هي المؤهلة لأداء هذا الدور، وقد بادرت إليه فعلا، ولكن ما هي إلا فسحة قصيرة حتى نشب خلاف بين حماس المتنفذة في قطاع غزة، والسلطة الفلسطينية المتنفذة في الضفة الغربية، وتطور هذا الخلاف إلى اشتباكات أسفرت عن سيطرة حماس عسكريا على قطاع غزة، ووجدت بسبب ذلك سلطتان فلسطينيتان. وكان متوقعا أن تقود حركة حماس سياسة عمل فدائي ينطلق من القطاع ضد إسرائيل، ولكن هذا لم يحدث. إذ لم تعد حماس بعد السيطرة على غزة مجرد حركة معارضة، أصبحت حركة حاكمة لجزء من الوطن، وللحكم طبعا مقتضياته. ومنها تأمين ظروف المعيشة لنحو مليوني نسمة في القطاع، وهنا أدركت حماس أنها لا تستطيع مواجهة اعتداءات إسرائيل. صحيح أنها واجهت الحملة الإسرائيلية الأولى على غزة، لكنها واجهتها من موقف الدفاع الذي مكنها من الصمود لكنه لم يتح لها إنجاز شيء ما. وإذا تكرر الأمر فإنه قد يؤدي إلى إعادة احتلال غزة.

يتضح من خلال هذه الصورة أن الدبلوماسية الفلسطينية مع إسرائيل لم تثمر، وأنها لا تكفي وحدها كخطة للعمل. ويتضح أيضا أن الحرب (العمل الفدائي) من خلال واقع غزة فقط لا يثمر أيضا، إذ إن موازين القوى مختلة لصالح إسرائيل. فما هو المخرج إذن؟

هذا السؤال ليس مطروحا على محمود عباس فقط، وليس مطروحا على حركة حماس فقط، إنه مطروح على الطرفين. وهناك الآن حوار مصالحة يجري بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، فهل يمكن لحوار المصالحة أن يبحث هذه القضية وما يترتب عليها؟

وإذا لم تبحث هذه القضية (وتفرعاتها) في حوار المصالحة، وإذا لم يتم إيجاد جواب نضالي، وليس جوابا يقر الأمر الواقع فقط، فإن ذلك سيعني القبول بالطريق المسدود. فلا العمل السياسي يجدي، ولا العمل الفدائي ممكن من غزة فقط.

وثمة أفق آخر للقضية لا يمكن تجاهله، وهو التغيير الذي حدث في مصر بعد زوال حكم الرئيس السابق حسني مبارك. ففي مصر الآن سلطة تتعامل إيجابيا مع حركة حماس، ولا تستطيع حماس في غزة أن تتجاهل علاقاتها الطبيعية مع مصر، خاصة أن مصر لعبت مؤخرا أدوارا سياسية لصالح حركة حماس، ليس أقلها وساطتها في إنجاز صفقة تبادل الأسرى، وليس أقلها أيضا تدخلها من دون إعلان لوقف حملات عسكرية إسرائيلية كانت على وشك البدء ضد قطاع غزة.

لكل هذا تفرض الوقائع على الجميع البحث عن بديل متفق عليه. إن البحث عن البديل هو التحدي الكبير المطروح على الجميع الآن. وفي جوهر هذا التحدي الفكرة الأصلية الموجودة دائما حتى لو تجاهلها الكثيرون، وهي أن العمل الفدائي الفلسطيني هو بالضرورة عمل عربي أيضا، إذ لا يوجد عمل فلسطيني بحت، لا سياسيا ولا فدائيا، وحين يتم اعتماد العمل الفلسطيني البحت تنفرد إسرائيل بقطف النتائج لصالحها.

ولا بد أن نسأل هنا: من هي الجهة الفلسطينية التي ستقود هذا الحوار مع العرب؟ ومن هي الجهة العربية التي ستقود هذا الحوار مع الفلسطينيين؟

ولا يظنن أحد أنه يستطيع أن يواصل الدرب بمفرده.