نحن أولاد الغجر!

TT

كانت للغجر لغة لا أعرفها حتى الآن.. وكل ما أذكره أنها قريبة من لغتنا العربية.. ويبدو أنها بغير حروف.. فهي مجرد أصوات.. عين.. حاء.. فاء.. هاء.. لم أتحقق من ذلك فيما بعد.. وكنت قد سمعت أن الغجر يشربون من دم بعضهم البعض.. لكي يشعر الجميع أنهم من دم واحد.. وأنهم واحد.. وقدمت لها ذراعي وطلبت إليها أن تشرب من دمي.. وأن أشرب من دم شطارة.. وأنني لن أعود إلى أمي.. فقد قررت أن أهرب!

وعندما فكرت في هذا الذي حدث في طفولتي فهمت لماذا كتبت مقالات في مجلة كلية الآداب بإمضاء «حي بن يقظان».. حي بن يقظان هذا بطل قصة كتبها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل.. وهي قصة طفل تبنته غزالة وأرضعته وعاش بين الغزلان يمشي على أربع.. وينطلق بسرعة.. ويعيش حيوانا بين هذه الحيوانات.. فأنا - إذن - ذلك الإنسان الغزال.. الإنسان الهارب من الإنسان..

فقد كان هذا حلما من أحلام الطفولة أن أعيش بين الآخرين.. لا بين أهلي وأقاربي.. وإنما بين آخرين لا يملكون إلا حرية التنقل.. فلم أجد الاستقرار العائلي ولا الجدران المتينة.. كأنني يتيم.. أو أنني يتيم.. كأنني طفل قد تبنوه في ظروف لا أعرفها.. كأنني شرعي المظهر.. لا شرعي الإحساس!

ولم أفهم إلا أخيرا لماذا اخترت مثل هذين البيتين من الشعر وعلقتهما في غرفتي في مدينة سيدني بأستراليا:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

وصار البر مرتع كل حوت

وصار البحر مرتع كل ذيب!

فقد وجدت في حديقة حيوان مدينة سيدني غرابا أبيض.. وقفزت إلى معنى آخر: أن العرب كانوا يرون أن الغراب الأبيض لا وجود له.. فهو المستحيل.. فلما وجدت الغراب الأبيض هتفت قائلا: الغراب الأبيض موجود.. فلا مستحيل يا عرب!

لكن المعنى الحقيقي الذي في أعماقي هو أنني أنشد المستحيل.. فلا قرار ولا استقرار.. ولا أمن ولا أمان.. فلن أجد أهلي.. ولا أريد.. والحوت إذا سار على الشاطئ فهذا مستحيل.. والذئب إذا عاش في البحر فهذا هو المستحيل!

لكني وجدت أن هذا هو الممكن.. فالشاطئ ما الذي عليه؟ عليه الناس.. المجتمع.. والمجتمع هو الحوت الذي يحتوي الناس.. إننا جميعا في بطن الحوت..

فليس يونس وحده، أو «ذو النون»، هو الذي ابتلعه الحوت.. وإنما كل الناس.. والقرآن الكريم يقول: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ».

إن نجاة النبي يونس من بطن الحوت تحتاج إلى معجزة.. إلى الله.. ولا نجاة للناس من الناس إلا بقوة الله!

وما الذي يفعله الناس في بطن الحوت؟ إنهم ذئاب يأكل بعضها بعضا.. فالحيتان على الشاطئ والذئاب أيضا.. والذئاب في الماء وعلى الشاطئ أيضا!