هل نعود للمستبد العادل؟

TT

بشرنا كثير من الكتاب العرب وغير العرب، ومعهم عشرات الفضائيات، بربيع عربي خالص من شوائب التعصب الديني والصدوع المجتمعية.

بشرونا منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وخصوصا بعد «هبة» يناير المصرية، تحدثوا عن الأمر وكأنه قضي، وعن الربيع وكأنه أزهر، وعن التزمت والجهل وكأنه تبخر في سماء الماضي. أتذكر جيدا كتابات وأحاديث هؤلاء، وحنقهم على من خالفهم الرأي.

الآن، كثير من هؤلاء قلق، أو مندهش، من اندلاع التعصب والتزمت والصدامات الطائفية، و«الغزوات» الاحتسابية، في تونس ومصر وليبيا وربما اليمن لاحقا.

هطلت علينا الصور من تونس، حافلة بعشرات اللحى، وهجمات من كل حدب وصوب على قناة فضائية بثت فيلم كرتون إيرانيا «برسبوليس»، حكى عن قصة عائلة إيرانية كانت تقدمية ومناصرة للثورة الإيرانية ضد الشاه، ثم تبين لاحقا خيبة أملها من هيمنة رجال الدين والملالي، الفيلم ليس وليد اليوم، بل قبل زمن «الربيع العربي»، وأنا شخصيا شاهدته، الفيلم أثار ثائرة المتزمتين في تونس، وخرجت المظاهرات المنددة باعتباره يمس المقدسات.

حتى «المعتدل» راشد الغنوشي، ورغم إدانة حزبه للهجوم على منزل صاحب القناة التونسية التي بثت الفيلم، تحدث عن أن أبناء تونس هم الذي خرجوا بالآلاف في الشوارع «ردا على الاستفزازات الإعلامية» حسب كلامه المنشور في هذه الجريدة.

الأمر لم يتوقف عند حادثة قناة «نسمة» التونسية، بل ترافق مع حوادث أخرى، فقد اقتحم بعضهم إحدى كليات الآداب على خلفية رفض إدارتها ترسيم طالبة منقبة، وحسب الكاتب والباحث التونسي محمد الحداد، في مقاله الأخير بجريدة «الحياة»، فإنه: «ومنذ تأسيس الجامعة التونسية ما زال الإجراء العادي في التسجيل أن يمتلك الطالب بطاقة تثبت عليها صورته الشخصية ليتمكن من دخول الحرم الجامعي، ما يتناقض والنقاب غير المستعمل في تونس في الجامعات، ولكن حصل لأول مرة أن اقتحم الكلية عشرات الأشخاص بالهراوات والأسلحة البيضاء لإلزام الإدارة بتسجيل الطالبة المعنية». نتحدث عن تونس، ذات التجربة المتقدمة جدا اجتماعيا في شأن الحريات الاجتماعية الشخصية، وتمكين المرأة، وتحديث المجتمع، والتراث البورقيبي العريض، فكيف سيكون الحال في مجتمع كالمجتمع الليبي المغرق في المحافظة، ومعزول طيلة حكم القذافي عن العالم؟!

منذ أن دخل الثوار إلى طرابلس العاصمة، وقد كثرت الشكوى من هيمنة المتزمتين، وملاحقة النساء، بل وصل الحال بتهديد صاحب صحيفة شخصيا، بعد أن نشرت صحيفته الكثير عن هجمة المتطرفين الدينيين على المجتمع الليبي.

أما في مصر فحدث عن المضحكات المبكيات، انفجار في شرايين المجتمع، سال منه التعصب والتزمت والشرار الطائفي، الذي خلف جثثا وجرحى في موقعة ماسبيرو، وعجائب الفتاوى حول السياحة والمرأة والعلاقات الدولية، هذه المرة ليس في ركن مسجد منزو في حي إمبابة، بل على الشاشات الفضائية والميادين العامة. وكالعادة يصبح التعليق من قبل دراويش الثورة والتحرير: فتشوا عن المندسين والمخربين والأصابع الأجنبية، وحتى المجلس العسكري يردد في تناغم عجيب مع الثوار نفس هذه الترهات، وحينما تجد من يلقي باللائمة على عنصر أجنبي أو جهات خارجية، أو مندسين غامضين، فاعرف أنه يتهرب من تحمل المسؤولية الذاتية، ينطبق هذا الأمر على الأفراد كما على المجتمعات والدول، ولذلك كنت ضد الطرح المغلق في السعودية حول أن الإرهاب والتزمت الديني الذي اندلع في السعودية خلال السنوات القريبة الماضية كان صناعة خارجية فقط! ففي عالم التواصل والاتصال لا يوجد خارج وداخل، فالكل يؤثر ويتأثر بالكل.

المشكلة، مشكلة الغرق في مستنقعات التعصب الديني والتفتت الاجتماعي وشيوع السلاح والفوضى، مرشحة للازدياد وليس للانحسار، وعلى من يراهن بأن هذه مرحلة «طبيعية» تمر بها كل الثورات أن يضع في الحسبان أيضا أن حركة التاريخ ليست كلها معادلات رياضية مكررة، فهناك دوما شيء جديد يحصل، وربما كان الجديد هذه المرة، هو الغرق في الفوضى لأجل بعيد، وأستغرب أكثر حينما تتم المقارنة بمرحلة الفوضى التي تلت الثورة الفرنسية 1789، ثم استقرت الثورة على القيم الإنسانية والدستورية المعروفة إلى اليوم، والحق أن هذه مقارنة يعوزها الكثير من الجدية والدقة والمواءمة بين سياقين زمنيين وحضاريين مختلفين جدا، وأخشى أنها مقارنة رغبوية خادعة للذات تنتمي إلى عالم الأماني أكثر من حسبانها في عالم الواقع المشاهد. ما جرى في الثورة الفرنسية في تلك الأيام كان حدثا معقدا ومركبا، لكنه فيما يخص التحول الاجتماعي كان تتويجا لعقود وقرون سابقة من الوعي والتنوير الديني وعصور النور، والتحولات التي أصابت البنية الدينية المسيحية نفسها بعد الثورة اللوثرية، وغير ذلك من «الثورات» السابقة في الميدان الفكري والديني والفني والاقتصادي حتى.

نحن ماذا فعلنا في هذه الميادين؟ ما جرى هو «خلع» حاكم هنا أو هناك؟ لكن هل «خلعت» قبل ذلك ثقافة المجتمع المعطوبة التي تنتج كائنا طائفيا أو متعصبا عرقيا أو جهويا؟

سؤال مختصر، سبق أن طرحه كاتب هذه السطور و«البعض» القليل من الأصوات العربية منذ بداية ما سمي بالربيع العربي: هل حقوق المرأة العربية ستكون أفضل بعد الربيع العربي؟ هل حرية التعبير العلمي، وليس السياسي، ستكون أفضل؟ بلغة أوضح: هل بعد ما جرى تجاه قناة «نسمة» التونسية أو بعد ما جرى ضد نجيب ساويرس في مصر على خلفية رسمة ميكي ماوس والحجاب، مثلا، ستصبح الحريات الدينية مصانة؟ هل يستطيع باحث في التاريخ أو الفلسفة أو الدين أو شتى العلوم الإنسانية، أن يضمن سلامته وحريته في هذه الأجواء المريضة؟ ومن يضمن أنها ستنتهي؟ وإذا انتهى حمل السلاح وأخذ الحق باليد، وأوكل الأمر إلى الدولة الجديدة، من يضمن ألا تكون هذه الدولة بيد خميني آخر، ولو بنسخة مختلفة؟!

الحرية والكرامة ليست مقصورة في بعد واحد، هي منظومة متكاملة، ونحن لم نشتغل عليها كعرب ومسلمين، طيلة العقود والقرون الماضية، لم ننجز تحولات حقيقية بل وحاربنا كل من أراد أن يفتح باب الأسئلة، فكيف أستطيع أن أصدق كلاما ككلام القيادي اللبناني المسيحي سمير جعجع، في حوار له مع العدد الأخير لمجلة «الوطن العربي»، فحسب نص المجلة، جعجع استبعد وصول أنظمة متطرفة مكان الأنظمة الحالية: «لأنه لا توجد أنظمة أكثر تطرفا من هذه الأنظمة حاليا من الناحية الإنسانية قبل أي شيء آخر».

هو كان، ربما، يتحدث عن نظام الأسد في سوريا، وأنا أتفق معه في بشاعة النظام الحاكم، وأعتقد أنه بلغ القاع في السوء، وربما يكون السوريون هم الأقل ضررا من بقية المجتمعات في تغلغل التعصب الديني بينهم، ولكن لست أضمن حتى ذلك، رغم أنني فعلا أفضل رحيل هذا النظام الضار بفرص التسامح الديني في المشرق، غير أن ذلك حديث آخر.

حسنا: هل معنى ذلك أن نظل محصورين في جيب استبداد الحكام العرب؟

طبعا لا، ولكن الحل، وهنا أخاطب النخب المثقفة، ليس في تهييج الشارع والتطبيل له، والكذب عليه بأنه بلا عيوب ضارة وعميقة، لو عاد بنا الزمان إلى مائة سنة سلفت لكان لدعوة المجدد الحضاري الإمام محمد عبده نصيب من النجاح حول فكرة المستبد العادل، وهي ثنائية مهمة جدا: استبداد يمنع تغول المجتمع على بعضه، وعدل يشمل التنمية والتعليم والخدمات، بحيث يمسك المجتمع بيد وتطلق قدراته الخلاقة بيد أخرى، فلا يبغي بعضه على بعض، حتى يصل إلى لحظة التوازن؟

للأسف هذا لم يحصل في الماضي، ولكن لا يعني هذا أن نعيد تكرار الكوارث والأخطاء التي تحدث عنها على سبيل المثال فيلم الكرتون الإيراني الذي أغضب تلاميذ الخميني الجديد في تونس. وكأننا ندور في ساقية رهيبة بلا ماء ولا مرعى.. ونفتن في كل عام مرة أو مرتين..

[email protected]