استردوا أموال الداخل أولا

TT

كان لافتا لي على الرغم من أنه لم يلفت نظر أحد غيري على ما يبدو ولا حتى الصحف القاهرية أن أحد رجال الأعمال القريبين من أسرة مبارك سوَّى حالته مع وزارة الزراعة المصرية بدفع ما يقرب من مليار جنيه مصري لتغطية العجز في الأراضي التي حصل عليها بسعر بخس أيام مبارك. إذا كان هذا هو أول مليار تحصله وزارة الزراعة من فرد واحد أو اثنين، على الأكثر، فلماذا يشغل المصريون أنفسهم بعودة الأموال التي هربت للخارج؟ ولماذا لا يتفرغون لاسترداد أموال الداخل أولا؟ خصوصا أن أموال الداخل التي يمكن تحصيلها، بشكل قانوني مشروع، تفوق الأرقام الخيالية التي ذُكرت عن ثروة مبارك. هناك في مصر من حصلوا على أراضٍ كثيرة، البعض حصل على 760 فدانا مثل صاحبنا المذكور، والبعض الآخر حصل على مائتي فدان أو ثلاثمائة أو أربعمائة فدان، كله بأسعار 3000 إلى 5000 جنيه للفدان، بينما الفدان الواحد يتراوح سعره بين 30 و50 ألف جنيه بسعر السوق في كثير من مناطق مصر. ترى لماذا لا يتجه الصحافيون المصريون إلى وزارة الزراعة المصرية ويرفعون دعاوى للحصول على المعلومات لمعرفة أين ذهبت أموال مصر في الداخل بدلا من الجري وراء أوهام الخارج واسترجاع الأموال من بلدان لا نعرفها وفيها قوانين لا نستطيع الإلمام بها؟ لو ذهب صحافي واحد إلى وزارة الزراعة وتعرف على من هم مطلوبون لسداد فارق السعر أو الغرامة لانتهت حيرة الوزير حازم الببلاوي، وزير المالية، وبدلا من أن يقترض من دول الجوار يستطيع أن يحصل أموال الدولة الموجودة في جيوب رجال الأعمال الموجودين في مصر.

وزارة الزراعة هي بداية الطريق لمعرفة أموال مصر المنهوبة، أما البنوك التي أقرضت كبار رجال الأعمال أموالا تصل إلى المليارات فحتى الآن لم يتابع الصحافي المصري ماذا يحدث بخصوص تلك القروض التي يبدو أنها أصبحت قروضا هالكة بعد الثورة. في عام 2008 نشرت صحيفة «البديل» المصرية تقريرا للجهاز المركزي للمحاسبات، جاء فيه أن القروض الكبرى من البنوك يستحوذ عليها في معظمها 94 فردا من رجال الأعمال في مصر، وأن هذه القروض أعطيت لرجال الأعمال عن طريق السياسة وليس حسب قواعد الاقتصاد، فكلها جاءت نتيجة لعلاقات بالرئيس وابنيه، وكلها مخالفة لكل القواعد المصرفية. وحسب التقرير فإن عددا من رجال الأعمال حصلوا على قروض ضخمة من أكثر من بنك، وصل البعض منها إلى 10 مليارات جنيه في حالة واحد من رجال الأعمال «بتوع الترفيه». رجل أعمال آخر حصل على 3 مليارات لم تتم تسويتها حتى الآن. وحسب التقرير كما جاء في «البديل» فإن 25 عميلا فقط حصلوا على 40% من قيمة القروض في البنك الأهلي، مقابل 28 عميلا حصلوا على 54% من إجمالي القروض الممنوحة من بنك مصر، و26 عميلا فقط من عملاء بنك القاهرة استحوذوا على أكثر من 60.3% من قروض البنك، بينما تركز نحو 43.3% من محفظة القروض في بنك الإسكندرية، قبل بيعه، في يد 15 عميلا فقط من عملاء البنك. ويكشف التقرير عن أن الـ28 عميلا الذين حصلوا على 54% من إجمالي القروض الممنوحة في بنك مصر تجاوزت مديونياتهم 22.1 مليار جنيه، هذا بخلاف 2.1 مليار جنيه أخرى تحت بند التزامات عارضة. وأشار التقرير إلى وجود 4 عملاء تجاوزوا نسبة الإقراض المسموح بها، أحدهم حصل على ملياري جنيه قروضا زائدة على المسموح. وكانت المفاجأة أن بعض هؤلاء العملاء تم منحهم قروضا لسداد التزاماتهم وقروضهم لبنك مصر نفسه أو لبنوك أخرى.

هذا غيض من فيض من أموال مصر في الداخل، فلماذا يحاول البعض توجيه الأنظار إلى الأموال التي هربت إلى الخارج؟ هل هي معركة وهمية لإبعاد الأنظار عن الجناة الحقيقيين في حق مصر؟ هل هي عملية تشبه تلك الحملات التي كانت تقوم بها جماعة الآثار لاسترجاع آثار مصر في الخارج في الوقت الذي تزيد فيه نسبة تهريب الآثار من مصر ذاتها؟ فكلما تم استرجاع تمثال خرج مائة تمثال من مصر في المقابل، هل هذا هو الملعوب ذاته؟

عدم الاستقرار في مصر ليس سياسيا كما يظن البعض، عدم الاستقرار يهدف إلى محاولة التغطية على الحسابات التي تسوى بطرق غير مشروعة وبأسعار أقل من السوق، أصحاب الأموال هم أصحاب الصوت العالي في مصر الآن، وهم من يروجون لفكرة عدم الاستقرار حتى يستطيعوا الهرب من المحاسبة الشعبية والقانونية. نجح بعض رجال الأعمال في التغطية على مشاكلهم المالية مع الدولة بتبني سياسة الصوت العالي، خصوصا أن كثيرين منهم الآن يمتلكون حجما كبيرا من سوق الإعلام في مصر. عدم الاستقرار في مصر ليس مجرد سياسة أو تبعات للثورة، عمليات عدم الاستقرار وراءها فلوس، وفلوس كثيرة، وكل ما يحتاجه صحافيو مصر للكشف عن هذه الحقائق هو الذهاب إلى وزارتي الزراعة والمالية لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء عدم الاستقرار. أيها المصريون، إن استرجاع أموال الداخل أولى بكثير من استرجاع الأموال التي هربت كما كانت تهرب آثارنا.. طبعا لن يتحدث الصحافيون في مصر كثيرا عن التسويات في الداخل؛ لأن العين فيها «قشاية» كما يقولون، وأحيانا فيها خشبة.