الصفقة في ميزان الانقسام

TT

ما دام الانقسام قائما، والتنافس على إرضاء الجمهور هو الأساس، فإن أي إنجاز مهما بدا مهما ومؤثرا يظل عرضة للتحول إلى مادة اصطراع جديد حتى لو كان بحجم معركة الأمم المتحدة، أو بحجم إطلاق سراح ألف وسبعة وعشرين أسيرا وأسيرة.

وما دام الانقسام قائما والتنافس على أشده، فإن إسرائيل ستظل صاحبة اليد العليا في كل شأن فلسطيني، وصاحبة القدرة الحقيقية على اللعب بالأوراق، وضرب هذا الطرف اليوم وتدليل ذاك غدا، وإحراج فتح في أمر، وتمكين حماس في أمر آخر، وبالطبع كل ذلك في سياق خطة إسرائيلية كاملة متكاملة هدفها بالطبع الاستيلاء على المشهد كله وتوجيه تفاعلاته وأحداثه في الاتجاه الذي تريد.

ذلك يحدث كل يوم وعبر كل الأمور المتصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتأثر شكلا وموضوعا بالصراع الفلسطيني - الفلسطيني، إلا أن المؤشر الراهن على تأكيد اليد العليا الإسرائيلية وقدراتها المتجددة على صعيدي السلب والإيجاب، هو ما يفصح عنه مشهد الصفقة، بكل ما له وما عليه وفق التقويمات العاطفية والسياسية والوطنية.

عاطفيا: لا يملك أي فلسطيني إلا أن يشعر بالفرح والرضا عند رؤية أسير ذاب في داخله الأمل بمعانقة الحرية بعد أحكام مؤبدة وقد عاد إلى بيته واحتضن ذويه البائسين، إنها صورة تهز أعتى القلوب وتستثير أعمق العواطف الغائرة تحت الإحباط المتراكم واليأس المقيم.

إلا أنها في ذات الوقت تصيب من راهنوا على الصفقة لإطلاق سراحهم ولم يتحقق الرهان.. تصيبهم بقدر من خيبة الأمل والعودة إلى دائرة اليأس فمتى ستتسنى صفقة أخرى بهذا الحجم حتى يتجدد الأمل ويتحقق الرهان.

وفي واقع شعب منقسم ينهمك قطبا حياته السياسية في صراع وتنافس حاد، فإن إيجابية الإفراج ستتلاشى بفعل تضخيم الثغرات الكثيرة في الصفقة، ولقد رأينا عينة من ذلك قبل أن يصل أي أسير أو أسيرة إلى البيت.

في هذا المجال يمكن القول: ليس بالإمكان أبدع مما كان تبريرا للثغرات، دون إلغاء الشعور الإنساني بالإحباط جراء الرهان الذي لم يتحقق. وسياسيا: رغم أن مفاوضات شاليط استغرقت سنوات طويلة، وكانت تتعثر تارة منذ البدء، وتارة أخرى في منتصف الطريق، وغالبا في الساعات الأخيرة، فإن توقيت نجاح الصفقة فرض على الجميع تفسيرات سياسية تحيط بها علامات استفهام كثيرة.

في إسرائيل يتحدثون عن إسفين دقه نتنياهو في جسد الفلسطينيين بترجيح كفة حماس على كفة فتح انتقاما من إصرار فتح على مواصلة معركة الأمم المتحدة التي ترفضها إسرائيل وتقاومها أميركا بشدة.

وفي فتح يتحدثون عن «فصائلية» المعايير التي حكمت الصفقة حتى أن مروان البرغوثي وأحمد سعدات انتقدا أداء حماس التفاوضي وإخراجها للصفقة منكرين حتى التشاور معهم أو حتى الاستماع لرأيهم!! وفي حماس يتحدثون عن قدرة غير مسبوقة على الفعل، واصلين إلى حد أن هذه الصفقة تؤكد عقم وسائل فتح، وفي القلب منها المفاوضات، ومظهرين عبقرية الأداء المقاوم الذي حرر غزة وحرر السجناء.

ووفق مقاييس التقويم السياسي للصفقة، فإن الخلاصة المستقرة في الوعي بعد انفضاض العرس ستظل على الصورة التالية، تواصل الاقتتال الفلسطيني بلا هوادة على كل صغيرة وكبيرة مع ازدياد قدرة إسرائيل في اللعب على هذا الاقتتال، وتأكيد فعالية يدها العليا في تحديد مساراته وحتى خلاصاته.

ووطنيا: إن تزامن معركة الأمم المتحدة مع معركة شاليط، شكلا نموذجين ماثلين لصورة الواقع الفلسطيني، حماس تشكك في دوافع ومضمون ونتائج معركة الأمم المتحدة، إلا أنها تعالج بحذر ردود الفعل الشعبية الايجابية عليها من منطلق التنافس والتسابق على الشعبية، وكذلك الأمر بالنسبة لمعركة شاليط، حيث تشكيك فتح بالأداء والتوقيت والنتيجة مع معالجة حذرة للبعد الشعبي الإيجابي للصفقة كي لا تبدو رافضة لأفضل ما فيها، وهو أنها تسببت في فرح آلاف الفلسطينيين إن لم يكن معظمهم.

وفي غمار التنافس المحموم يتوارى خلف المشهد الاحتفالي الصاخب لربيع الأمم المتحدة وربيع الأسرى ما تقوم به إسرائيل على الأرض من إجراءات خطرة، حيث التصريح ببناء أكثر من ثلاثة آلاف وحدة سكنية في ضواحي القدس.. وغيرها وغيرها من الإجراءات والترتيبات التي تسابق فيها الدولة العبرية الزمن لإنجاز الأمر الواقع على الأرض، وبعد ذلك يمكن أن تقول للفلسطينيين: هذا ما تبقى لكم فاقتسموه أو واصلوا الاقتتال عليه!

إنسانيا وعاطفيا: لا نملك إلا تهنئة كل أسير تحرر وكل أسيرة تعود إلى البيت أو إلى بيت الجيران.. ثم لا نملك إلا تهنئة ذوي المحررين ومشاطرتهم الفرح بعودتهم إلى الحرية.

أما سياسيا: فلا أملك شخصيا إلا الحذر والتحذير.