رجال الدولة الإيرانية

TT

عندما سمع المسؤولون في البيت الأبيض لأول مرة، من خلال تقرير لأحد المخبرين، في الربيع الماضي عن مؤامرة إيرانية لقتل السفير السعودي في واشنطن، لم يستطيعوا تصديق الأمر، وطرحوا على أنفسهم نفس السؤال الذي أصابنا جميعا بالحيرة منذ صدور لائحة الاتهام ضد المتآمرين المزعومين في يوم الثلاثاء. والسؤال هو: إذا كان الإيرانيون هم من خططوا لمثل هذه العملية الحساسة، فلماذا يسندون تنفيذ المهمة إلى منصور أرباب سيار، تاجر سابق للسيارات المستعملة، الأميركي الإيراني الأصل، وفريق من القتلة المحترفين من عصابة مخدرات مكسيكية؟ وإذا قلنا إن الموضوع يشبه رواية جاسوسية، فإننا بذلك نظلم هذا النوع من الأدب، فالحبكة الحمقاء للمؤامرة تجعلها أقرب إلى إحدى روايات الجريمة «المفضوحة» التي يرى فيها القارئ كيف يرتكب المجرم جريمته، والتي اشتهر بكتابتها ليونارد إلمور، حيث تشبه الحبكة الرئيسية في إحدى رواياته التي تحمل اسم «غيت شورتي» أو «أمسكوا شورتي».

ولكن مع مرور الشهور، أصبح المسؤولون في البيت الأبيض ووزارة العدل مقتنعين أن الخطة حقيقية، وأحد الأسباب الهامة وراء اقتناعهم هذا هو أن وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من أجهزة الاستخبارات جمعت معلومات تؤيد مزاعم المخبر اللامعقولة، حيث تبين أن المؤامرة حظيت بدعم من القيادة العليا لفيلق القدس الذي يمثل النخبة في الحرس الثوري الإيراني، ذراع العمليات السرية للحكومة الإيرانية. وكانت هذه المعلومات الاستخباراتية، التي لم يتم الحصول عليها من شخص من داخل مافيا المخدرات المكسيكية، بل تم جمعها في إيران، هي ما دفع وزارة الخزانة، يوم الثلاثاء، إلى فرض عقوبات على أربعة أعضاء بارزين في فيلق القدس بزعم أنهم «متورطون» في مؤامرة اغتيال السفير السعودي، حيث كان من ضمن المتآمرين المزعومين قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس، وثلاثة من النواب الذين زعم أنهم «تولوا عملية التنسيق» في المخطط.

ودعونا نضع فرضيتين: الفرضية الأولى هي أن المزاعم التي قدمها الادعاء العام حول أرباب سيار صحيحة، حيث إنها من المرجح أن تكون كذلك، بالنظر إلى كونه شاهدا متعاونا. والفرضية الثانية هي أن عناصر فيلق القدس كانت على استعداد للتحدث مع أرباب سيار حول تنفيذ عملية سرية في الولايات المتحدة، ويبدو هذا، مرة أخرى، شديد الوضوح في نص المكالمة الهاتفية التي أجرها أرباب سيار في 4 أكتوبر (تشرين الأول) مع مسؤول الاتصال الرئيسي به في فيلق القدس، غلام شكوري، بتوجيه من المدعي العام.

ويكمن اللغز في السبب الذي دفع الإيرانيين للقيام بمثل هذه العملية المحفوفة بالمخاطر، وبمثل هذا الأداء المهني الضعيف، حيث يعد سليماني ومجموعته أحد أمهر العملاء السريين في العالم، لدرجة أنني شبهته في مقالاتي السابقة بـ«كارلا»، رجل المخابرات الروسي الشيطاني الداهية في روايات جون لوكاريه، كاتب روايات الجاسوسية الشهير، فلماذا إذا يتحول كارلا الإيراني وفريقه إلى مجموعة من الحمقى؟

الإجابة عن هذا السؤال يقدمها كبار المسؤولين الأميركيين، الذين يقولون إن الإيرانيين يعانون من الضغوط والإرهاق، في الداخل والخارج، بطريقة تدفعهم إلى التورط في أمور أكثر خطورة، حيث يقول المسؤولون إن عمليات فيلق القدس قد أصبحت أكثر عدوانية في عدة مسارح للعمليات، مثل سوريا. ويعمل العملاء السريون الإيرانيون سرا على المساعدة في حماية نظام الرئيس السوري بشار الأسد المحاصر، وكذلك في العراق، حيث قام فيلق القدس هذا العام بتصعيد الهجمات ضد القوات الأميركية الموشكة على الرحيل، وفي أفغانستان، حيث قاموا بتسليح حركة طالبان. كذلك يعملون في أذربيجان، حيث كانوا أكثر جرأة في الإعلان عن النفوذ الإيراني، وفي البحرين، حيث دعم عملاؤهم السريون الانتفاضة ضد حكومة آل خليفة في الربيع الماضي والتلاعب بها. (ويقال إن شكوري، الذي تم توجيه الاتهام له يوم الثلاثاء، قد ساعد في التخطيط لعمليات فيلق القدس في البحرين).

ولكن لماذا تمت الاستعانة بعصابات المخدرات المكسيكية؟ يقول المسؤولون الأميركيون في معرض إجابتهم عن هذا السؤال إن هذا ليس أمرا غير معقول كما يبدو للوهلة الأولى، فليس لدى الإيرانيين البنية التحتية اللازمة للعمل بشكل سلس في الولايات المتحدة، ومن ثم سيكونون بحاجة لاستخدام عملاء من الخارج، بحيث يستطيعون «إنكار» صلتهم بهم في أي وقت.

وقال مسؤول أميركي رفيع المستوى، كان قد اطلع على ملخص للتقارير الاستخباراتية: «إنهم على أشد الاستعداد لاستخدام جميع أنواع العملاء لتحقيق الأهداف السرية لسياستهم الخارجية».

ويمثل ما حدث إشارة واضحة على تصعيد إيران للعمليات الإرهابية التي تقوم بتنفيذها داخل الولايات المتحدة، لكن تتم مثل هذه الهجمات على خلفية حرب سرية تتم في الخفاء وبدأت في عام 1983، عندما قامت المنظمة السالفة لفيلق القدس بتجنيد مفجرين شيعيين لبنانيين لتدمير السفارة الأميركية وثكنات قوات البحرية الأميركية في بيروت، مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص. وكانت هذه المنظمة تعرف داخليا آنذاك (من قبل عدد قليل من الذين كانوا يعرفون بوجودها) باسم «برون مارزي»، أو «خارج الحدود»، ثم أطلق عليها الاسم الحركي «الإدارة رقم 9000»، لتحمل بعد ذلك اسم فيلق القدس. وثمة عامل أخير من الممكن أن يكون قد ساهم في هذه المؤامرة غير المعقولة، وهو الاضطراب السياسي في طهران، حيث ينظر المحللون إلى فيلق القدس بوصفه الذراع التنفيذية لأعمال المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي، والذي يخوض معركة مريرة مع الرئيس محمود أحمدي نجاد. وقد أدت هذه الضغينة إلى تخبط وزارتي الخارجية والاستخبارات الإيرانية في عملهما بشكل كبير، تاركة المجال مفتوحا أما فيلق القدس. إن الوضع يتسم بالفوضى من أجل المغامرين، والراغبين في تصفية الحسابات، والمأجورين.

* خدمة «واشنطن بوست»