السلام في ظلال الثورة!

TT

حينما كانت المفاوضات جارية بين طرف عربي وإسرائيل كان هناك تساؤل دائم في الدوائر الإسرائيلية والأميركية، وحتى الأوروبية، عما إذا كان السلام يمكنه الصمود إذا ما تغيرت القيادة التي وقعت عليه؟ كان السؤال مطروحا وهو يستند إلى ادعاءات لها وجاهتها، فهناك دائما قوى عربية رافضة لفكرة السلام مع إسرائيل من الأصل، وترى أن الصراع معها هو صراع وجود لا حدود. وكان الرئيس أو الملك العربي له من «السلطوية» ما يكفي لفرض السلام بالقوة حتى على شعبه، ولكن بقاءه في السلطة مرهون بالمدى الذي تصل إليه هذه السلطة، فإذا وهنت أو ضعفت القبضة وحدثت ثورة أو انقلاب أو جاء أجل الله الذي لا يستثني سلطانا ولا رئيسا ولا ملكا، فإن أول ضحايا اختفاء رئيس البلاد ربما يكون السلام مع إسرائيل.

وهكذا، فإن معاهدة السلام كانت دائما تجري تحت طرح أنها معرضة للخطر ساعة اختفاء القائد العربي الذي وقع عليها. ولكن التاريخ أثبت أن هذا الطرح ليس سليما، وأن الاتفاقيات ومعاهدات السلام قادرة على الصمود. فقد تم اغتيال السادات ولكن خليفته، حسني مبارك، جعل السياسة الخارجية المصرية تسير كما كانت، ولم يكن «السلام باردا» بسبب وفاة الرئيس الأسبق، ولكن لأن إسرائيل لم تنسحب من طابا، وقامت بقصف المفاعل النووي العراقي، وقامت بغزو لبنان. وعندما عقد مؤتمر مدريد ووقعت اتفاقية أوسلو عاد بعض من الدفء للعلاقات المصرية - الإسرائيلية. ولم يختلف الأمر كثيرا عندما خلف الملك عبد الله الثاني والده الملك حسين، ولا تغيرت السياسة في الخلاف والاتفاق مع إسرائيل بين ياسر عرفات ومحمود عباس. وفي كل الأحوال فإن القادة العرب الذين تمسكوا بعملية السلام بقوا على تمسكهم بها حتى بعد أن تغيرت الأحوال.

الأمر أصبح مطروحا بشدة بعد الثورات العربية المتعاقبة، وكان التركيز الإسرائيلي على القاهرة باعتبارها ليس فقط واحدة من الدول العربية المهمة، ولكن لأنها كانت تضع «أجندة» العلاقات مع إسرائيل، كما أن منها خرجت أول معاهدة للسلام بين إسرائيل ودولة عربية. أضف إلى ذلك أن الأحوال بين القاهرة والقدس لم تكن على ما يرام حتى قبل الإطاحة بالرئيس مبارك، حيث لم يكن نتنياهو من القادة الإسرائيليين الذين يمكن التعامل معهم، وظهر ذلك في عرقلته لكل محاولات استئناف المفاوضات. الأحوال على الحدود أيضا لم تكن طيبة، فالأنفاق الفلسطينية كانت تغذي غزة بالسلاح أكثر مما تعطيها من غذاء ودواء، كما أن تنظيم القاعدة نجح في اختراق شمال سيناء، التي أصبحت أحوالها في العموم غير مستقرة، حينما استغلت أطراف فيها فرصة الثورة لكي تدمر أنابيب ومحطات الغاز الذي يذهب إلى إسرائيل والأردن وسوريا، وفوقها رموز للسيادة المصرية، مثل مركز شرطة العريش.

وبشكل أو بآخر فإن الثورة المصرية بقيت مشتعلة طوال الشهور الماضية، وظهر جاسوس إسرائيلي في وسطها لكي يزيدها اشتعالا ويربط ما بين أوضاع سياسية قلقة، والصراع العربي - الإسرائيلي الممتد إلى تاريخ طويل. وفجأة اشتعلت الحدود المصرية الفلسطينية الإسرائيلية بالعملية العسكرية التي أجراها فصيل فلسطيني ضد عناصر مدنية إسرائيلية في إيلات فنجم عن الهجوم استشهاد خمسة من العسكريين المصريين. وهكذا اشتعلت الثورة المصرية المشتعلة أصلا في ميدان التحرير لكي تحاصر الجماهير السفارة الإسرائيلية، ويتمكن واحد من الثوار من تسلق مبنى السفارة ويحضر العلم الإسرائيلي لكي يتم إحراقه، وبعدها بأيام، وبعد وضع علم آخر، جرى إحراقه مرة ثانية وسط حرج مصري بالغ من التعرض لبعثة دبلوماسية، حتى ولو كانت إسرائيلية.

وببساطة، جاءت لحظة الاختبار لمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية التي كان ينتظرها الجميع عند توقيع الاتفاقية، وبدا الأمر أن لحظة التراجع عن السلام قد حانت، وجاء في خيالات البعض ربما أن ساعة الحرب قد حلت. ولكن ومرة أخرى ثبت أن المسألة كلها ليست بهذه البساطة، فقد كان العلم الإسرائيلي يعود بعد حرقه كل مرة، وجرى اعتقال كل من كان لهم يد في الموضوع، وعلى الرغم من تكرار نسف أنابيب الغاز ومحطة توزيعه، فإن الإصلاح كان يتم ويعود تدفق الغاز مرة أخرى، وأكثر من ذلك، جرى تعزيز الوجود العسكري المصري في شمال سيناء بتوافق مصري - إسرائيلي وحتى دون تعديل بروتوكول التعاون الأمني بين الطرفين والملحق بمعاهدة السلام.

وفوق ذلك كله حدثت المفاجأة، وبعد خمس سنوات من المحاولات في ظل النظام المصري السابق، والنظام المصري الحالي جرى الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حماس جلعاد شاليط مقابل 1027 أسير فلسطيني، والجاسوس الإسرائيلي ألان حاييم جرابيل مقابل 81 سجينا مصريا في السجون الإسرائيلية لأسباب شتى. وفوق ذلك تكثف الوجود العسكري المصري في شمال سيناء مزودا هذه المرة بطلعات جوية، وباعتذار رسمي من إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي، عن حادث استشهاد الجنود المصريين، وهو ما فشلت تركيا في الحصول عليه حتى الآن فيما يخص الشهداء من الأتراك الذين قتلهم الجنود الإسرائيليون أثناء محاولتهم تقديم العون إلى غزة. ببساطة ظهر أن التعاون المصري - الإسرائيلي لم يتغير عما كان عليه.

كيف يمكن تفسير ذلك، والثابت أن مصر قد تغيرت وأن الأحوال لن تعود إلى ما كانت عليه، وعلى الرغم من سيطرة المجلس العسكري، فإن هناك أطرافا شتى في القاهرة أصبح للشارع فيها صوت قوي، ولم يعد أحد يستطيع تجاهل الرأي العام المصري. ولكن حقائق أخرى باتت تفسر المسألة بشكل آخر، فالجغرافيا السياسية خلقت جوارا لا يمكن تجاهله مهما تغيرت النظم وقامت الثورات. وطالما كان الحال كذلك فإن مصالح مشتركة تظهر حتى ولو تغيرت المقتربات والمناهج وبات خالد مشعل زعيم حركة حماس من زوار القاهرة الدائمين.

وكما أن معاهدة السلام رتبت روابط بين مصر وإسرائيل، فإن هناك روابط أخرى مع الولايات المتحدة وأوروبا تتأثر سلبا وإيجابا بالأحوال ودرجة الحرارة في معاهدة السلام، وعما إذا كانت دافئة أو باردة.

ولكن ربما كان عامل الرأي العام المصري هو أهم العوامل، فمن يريدون الحرب لأسباب شتى لم يتعدوا في استطلاع رأي أخير نشره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام في صحيفة «الأهرام» 4 في المائة، والذين يريدون إلغاء معاهدة السلام 7 في المائة، وطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة 12 في المائة واستدعاء السفير المصري 11 في المائة. أما الغالبية من الشعب المصري (62 في المائة) فإنها تريد استمرار الاتفاقية مع إجراءات تعديلات فيها، التي تجري بالفعل، ولعلها تلك التي تحمي الأمن المصري؛ أما 23 في المائة فإنهم يريدون بقاء الاتفاقية كما هي، خوفا من عودة التوتر والصراع مرة أخرى في لحظة تراجع فيه مصر نفسها وتعيد بناء نظامها من جديد وسط صعوبات هائلة. هل يمكن القول إن المعاهدة نجحت في اختبار آخر على الرغم من صعوبته وتعقيده؟! أظن ذلك.