الملك فهد وحرب الناقلات

TT

في 5 يونيو (حزيران) 1984، خرقت طائرتان إيرانيتان الأجواء السعودية، لم تكن تلك المرة الأولى التي يحاول فيها النظام الإسلامي في إيران تهديد السعودية عبر اختراق أجوائها، وسبق للسعودية أن بعثت برسائل إلى الإمام الخميني، وإلى الرئيس علي خامنئي شخصيا عبر الوسطاء السوريين مفادها أن السعودية لن تسكت عن هذه الاستفزازات.

كان الخليج يشهد ما سمي «حرب الناقلات»، حيث كان العراق وإيران يتبادلان قصف ناقلات النفط وتضررت خلال تلك الفترة الناقلات الكويتية والسعودية. أصدر الملك فهد - رحمه الله - أوامره بالتصدي للطائرات الإيرانية، فكان أن أسقطت السعودية طائرة إيرانية - وفي رواية طائرتين. ضجت طهران - حينها - وبعثت بأكثر من سرب طائرات بغية اختراق الحدود السعودية فتصدت السعودية بسربين، ونظرا للقدرات السعودية الجوية - لا سيما امتلاكها لطائرات الآواكس - تمكنت السعودية من إجبار طهران على التراجع، بل وباتت الطائرات الإيرانية لبعض الوقت غير قادرة حتى على تعدي حدود إيران الجوية.

يروي عبد الحليم خدام - نائب الرئيس السوري السابق - في كتابه «التحالف السوري - الإيراني والمنطقة» (2010)، تفاصيل حوارين أجراهما؛ أحدهما مع الرئيس علي خامنئي والآخر مع الجانب السعودي، في إطار وساطة لم يكتب لها النجاح.

قال خامنئي: «لقد قامت السعودية بهذا العمل - أي التصدي للطائرات الإيرانية - أكثر من عشر مرات، وفي مرة واحدة توفقت وأسقطت لنا طائرة... السعودية ليست قوة عظمى ونحن نقول إنها ليست قوة».

يقول هنر فرتج (2002) وآخرون ممن كتبوا عن تلك المرحلة أن سياسة «الردع المتبادل» الذي قابلت به السعودية التحرشات الإيرانية كان له أثر كبير في تراجع إيران عن سلوكها، وكان رد فعل السعودية الحاسم على أعمال إيران التخريبية في حج 1987 رادعا كبيرا للتجاوزات الإيرانية، لأن الإيرانيين أدركوا أن رد الفعل السعودي القوي لن يكون مبررا أمام الجمهور الإيراني إذا ما عجزت طهران عن الرد، لأن ذلك يكشف عن عجز النظام.

في مذكراته «مهمة إلى طهران» (1981)، اشتكى ويليام سوليفان - السفير الأميركي لدى إيران أثناء الثورة الإيرانية - من إدارة الرئيس كارتر، حيث كشف أن البيت الأبيض أساء إدارة الأزمة ولم يكن ليستوعب الأبعاد الآيديولوجية للثورة، فقد كان يعول على حكومة شهبور بختيار، ولم تفلح المحاولة الأولى لاحتلال السفارة في تصحيح سياسة كارتر التي كانت تعتقد إمكانية مهادنة ملالي إيران الجدد.

في ذات السياق، قال الراحل الملك فهد لمبعوث أميركي (أكتوبر 1979): «انظر ما الذي حدث لإيران، لقد قتلوا زبدة مجتمعهم... أفضل العقول في الجيش، والمهن، والخدمة المدنية قتلوا أو أجبروا على الرحيل للمنافي».

لقد حاولت السعودية بعد الثورة مهادنة الثورة الإسلامية في إيران، واضطرت إلى دعم العراق لأن النظام الثوري في طهران كان يجهر بتهديداته نحو تصدير الثورة وتغيير الأنظمة علنا، ولكن السعودية مارست تجاه إيران سياسة «الردع المتبادل» ما بين 1984 - 1991، وحتى بعد ذهاب الخميني كان الاحتواء السعودي تجاه طهران حذرا.

هناك تصريح مهم للملك فهد يلخص حال العلاقات السعودية - الإيرانية بعد الثورة: «نحن لا نستطيع أن نغير الواقع الجغرافي بالنسبة لإيران، وهي لا تستطيع أن تلغي واقعنا... بالنسبة لنا، نحن لا نطلب من إيران أكثر من الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وهي ذات المطالب التي - يزعم - الإيرانيون المطالبة بها».

لقد كانت محاولة التقارب في 1997 التي قادها كل من الملك عبد الله والرئيس السابق هاشمي رفسنجاني أهم محاولة بين الطرفين للعبور بالعلاقات السعودية - الإيرانية إلى فضاء التصالح والعيش المشترك، وحينها أسر رفسنجاني للملك عبد الله أن خطواته قد لا ترضي المتشددين في إيران، ولكن لا بد من جهود سعودية - إيرانية مشتركة لتجاوز عقبات العداء ذي الجذور الآيديولوجية الدينية والقومية.

مضى التقارب في عهد الرئيس خاتمي بدعم من التيار الإصلاحي، ولكن غزو العراق في 2003 عاد بالعلاقات إلى الوراء، فقد نجح المتشددون بالتحالف مع الحرس الثوري في إقصاء التيار الإصلاحي واستعادة الخطاب الثوري، بل والماضي الإرهابي للأصولية الإسلامية في إيران، فكان اغتيال الحريري، والتحالف التخريبي مع نظام بشار الأسد في سوريا. واليوم تطفو على السطح محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، وهي نقطة فاصلة في العلاقات ما بين السعودية ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران، فلأول مرة تغامر طهران في التخطيط لعمل إرهابي على الأراضي الأميركية. يجادل البعض أنه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها متطرفون داخل إيران بالتخطيط لعمليات إرهابية، سواء ضد الولايات المتحدة أو السعودية، دون أن يكون هناك رد حاسم، وعليه فهم يقللون من تبعات الحادثة. هذا صحيح، ولكن هذه الحادثة بالذات مختلفة، وهنا ينبغي التركيز على أمرين: أولا، أن أميركا والسعودية كانتا تتحفظان من جانبيهما على الرد المباشر حتى لا ينجح المتطرفون في تحويل المنطقة إلى ساحة حرب يخسر فيها الجميع، وعلى الرغم من ذلك كانت هناك حالات تم فيها الرد بقوة وكان وقع ذلك على إيران مؤثرا. صحيح، أن إيران لم يكن يتم عقابها بشكل عسكري يصل إلى قلب النظام، ولكن ضبط النفس هو الذي كان يحول دائما دون تصعيد الأمور بصورة مواجهة عسكرية مفتوحة.

التاريخ - أيضا - يذكرنا بأن النظام الحاكم كان يتراجع خطوات كثيرة إلى الوراء متى ما أحس بالاستهداف المباشر، وأبرز مثال على ذلك كان في 2003، عندما شعرت إيران بأنها قد تكون التالية في القائمة الأميركية بعد غزو العراق، حينها تراجعت إيران في ما يتعلق ببرنامجها النووي مثلا، وقبلت بالبروتوكول الإضافي الذي يتضمن التفتيش المفاجئ. لم يتغير الوضع إلا في النصف الثاني من عام 2004 حينما أدرك الإيرانيون صعوبة قيام الولايات المتحدة بحرب أخرى في المنطقة، ولهذا شهدنا كيف قام الإيرانيون والسوريون بتنشيط ودعم العمليات الإرهابية في العراق، وتلا ذلك اغتيال الحريري في 2005، واختراق الجماعات الشيعية (الإسلاموية) الحاكمة في العراق.

يجادل البعض أن إيران لا تشعر بقدرة أي قوة أجنبية على غزوها، ولذا فهم مطمئنون أن أقسى ما يستطيع الآخرون القيام به هو فرض عقوبات إضافية تنهك الداخل أكثر من قدرتها على تغيير النظام. على الرغم من كل ذلك، فإن مظاهرات 2009 التي أعقبت الانتخابات الإيرانية قد كشفت عن هشاشة النظام الإيراني في الداخل.

الذين يشككون في رواية اغتيال السفير عليهم أن يدركوا أن إيران ربما تكون - كما أشار إلى ذلك بعض الكتاب - تشعر بتهديد حقيقي لمصالحها لا سيما في حال سقط الحليف السوري، ولذا فإن لجوءها لتلك المحاولة قد لا تعكس إلا عن نفاد خيارات إيران وأوراقها الاستراتيجية التي قامت باستغلالها عبر ورقة الأقليات الشيعية في كل من البحرين والسعودية والكويت.

تهديدات إيران التي وصلت لحد قول برلماني إيراني - كريم عابدي - بأن لديها القدرة على احتلال السعودية ليست إلا تصريحات لا تمت إلى واقع القدرات العسكرية الإيرانية بصلة.

يجب أن نتذكر أن حالة الثقة التي يشعر بها النظام الإيراني ويريد إشعار الآخرين بها ليست إلا ستارا من الدخان لواقع اقتصادي وعسكري فاشل. قال لي مسؤول خليجي مرة: «لقد جربنا الحوار مع النظام الحاكم في إيران مرات عدة، ونقلنا لهم تهديداتنا مباشرة... للأسف، هم لا يفهمون إلا أسلوب القوة»، ونقل لي مسؤول إيراني سابق أن المرشد علي خامنئي قال ذات مرة في لقاء خاص بمسؤولين إيرانيين: «إن المشيخات البدوية في الخليج الفارسي ليسوا إلا أعرابا - كما يقول القرآن، ولا يفهمون إلا لغة القوة».

هناك بالفعل سوء فهم متبادل بين الطرفين، ولكن الحقيقة الثابتة لأي دارس للنظام الثوري في إيران هو أنه نظام معني في المقام الأول ببقائه، وسيضطر إلى التراجع متى ما أحس بجدية التهديد.

في مقاله «من الذي يريد قتل سفير السعودية»، يضع السيد عطاء الله مهاجراني يده على الجرح حين يقول: «إذا ما اتفقنا على أن مجموعة تابعة لفيلق الحرس الثوري تهدف إلى بدء حرب جديدة في منطقتنا، فحينئذ يجب أن تتم محاسبتهم هم، يجب أن يدفعوا هم الثمن، وليس شعوب المنطقة».