نخب أفلاطون

TT

قابلته بعد انفجار التمرد السوري، في مناسبة اجتماعية غير سياسية. كان قادما للتو من لندن، حيث يعمل ويعيش ويتعلم، كما قال. كان من الأدب أن نستمع إليه، هو الذي قدم نفسه إلينا كمهتم ومتابع، وأوهمنا أنه يعرف عن شؤوننا ما نجهله، ويمكنه أن يكشف لنا خبايا أوضاعنا وخفايا أحوالنا المقلقة، التي قال إنها تخيفه هو أيضا، ليس فقط بسبب ما تضمره من احتمالات خطيرة، وإنما لأن عدم حلها سيفتح أبواب الجحيم على المنطقة العربية بأسرها، التي لا ينقصها مزيد من المعضلات العصية على الحل.

بعد هذه المقدمة انتظرنا الحل الذي يقترحه للأزمة السورية، فقال: إنه واضح جلي، يتلخص في تطبيق نظرية النخب لدى أفلاطون على الواقع السوري. ساد الوجوم الجلسة وثارت الأسئلة في الرؤوس وعلى الألسنة. بعد جدال سأله أحدهم: لنفترض أنه كان لدى أفلاطون نظرية سياسية محورها النخب، ماذا تفيدنا نظرية كهذه في حالنا الراهنة؟ التي أنتجها بالضبط فشل النخب السياسية الحاكمة أو السائدة، ويعبر عنها خير تعبير اندفاع الكتل المجتمعية الكبرى، غير النخبوية وغير الطليعية، إلى ميدان السياسة، كي تحرر نفسها من هذه النخب وتضع حدا لفكرة النخبوية ذاتها: حزبية كانت أم ثقافية أم عسكرية، وتفتح أبواب المستقبل أمام تجارب مغايرة ليست النخب من يصنعها ويترك بصماته عليها، بل المواطن العادي، الذي يريد أن يكون حرا ومنتجا وصانع حاضره ومستقبله، فلا بد أن تضع قوى التغيير معارفها وخبراتها تحت تصرفه، وتنخرط في صفوفه كي ينتهي زمن النخبوية والنخب، ولا يرتبط كل شيء بإرادتها وخياراتها بعد الآن، ولا تكون النتيجة مريعة، كهذه التي نلاحظ نتائجها الكارثية في واقعنا العربي والسوري الراهن، حيث تسيطر نخبة عزلت السياسة عن عمقها الإنساني والبشري، وحولتها إلى تقنيات ضبط وتحكم مرتفعة الثمن إلى أبعد حد، انقلبت بمرور الزمن إلى عملية تعذيب نفسي وروحي، مادي ومعنوي للشعب، تفاقمت حتى إنها لم تترك للمواطن أي خيار غير قبول الموت مقابل التحرر منها.

وكان أفلاطون قد جعل النخبة الحاكمة من الفلاسفة وأهل الحكمة والمعرفة، بينما جعل العسكر أداة بيدها تنفذ سياساتها دون تردد، على أن لا يرتبطوا بأية مصالح دنيوية، بما في ذلك الزواج وتأسيس أسر كي لا يشدهم ارتباط كهذا إلى غير مهمتهم الأصلية: الموت دفاعا عن الجمهورية ومن أجل عزتها. حين سأل أحد الحاضرين إن كانت النخبة التي تحكمنا تشبه نخبة أفلاطون، ومن أين لها أن تصير مثلها، نخبة فلاسفة وحكماء، في زمن انهيار السياسة وخراب الدول وسقوط القيم على يديها؟ تساءلنا جميعا معه: ألم تخضع النخب جميعها للعسكر بدل أن يخضعوا هم أنفسهم لغيرهم من أهل الحكمة والمعرفة؟ وهل يتصور عاقل أن تقبل المجتمعات التي عانت الأمرّين على أيدي نخبها السياسية منح هذه فرصة جديدة تمارس خلالها تجارب جديدة يكاد يكون من المؤكد أنها لن تكون بأي حال خيرا من تجارب السنوات الخمسين الماضية، إن لم تكن أشد سوءا منها بكثير، بالنظر إلى نفور الشعب منها ومن خبراته معها؟ ثم ما الذي يسوغ هذا القدر من التمسك بالنخب واحتقار المواطن، الذي يتمرد اليوم على الظلم ويبدي وعيا رفيعا بمصالح المجتمع والدولة، ويبذل روحه رخيصة في سبيل الحرية، له ولغيره، لكن أهل النخب من أمثالكم لا تجدونه جديرا بحمل المسؤولية عن نفسه ووطنه، ويريدون من جديد وضع نخب على رأسه لن تلبث أن تنفرد بالسلطة والقرار، وسرعان ما ستعامله كعدو وستشن عليه حربا ضروسا هدفها اقتلاعه من الوجود أو إركاعه دون قيود أو شروط؟ بعد لحظة صمت، أضاف أحد الحاضرين بشيء من التذمر: لقد أظهر المواطن العربي درجة من النضج فاجأتنا جميعا، ونحن نقر بلا اعتراض أنه كان متقدما على النخب، بما في ذلك المتفلسفة والمنظرة منها، فلماذا تريدنا أن ننكر حقه في إدارة شؤونه، وأن لا نرى في ذلك حقا طبيعيا له يجب أن يبنى عليه النظام السياسي القادم، الذي نتوق إليه وننتظره بلهفة وشوق، ونرى فيه بداية صفحة جديدة ليس فقط بالمقارنة مع الأمر القائم، وإنما كذلك مع تاريخنا المديد، رغم ما عرفه من مآثر نفخر بها وننتمي إليها؟

لم ينتهِ النقاش إلى توافق الحاضرين مع الضيف الآتي من لندن ونظريته في النخبة الأفلاطونية، التي يرى فيها خلاصنا، بل إن أحد المحاورين ذكره بما كان أسلاف النخبة الحاكمة الحالية قد قطعوه على أنفسهم من وعود سماها «أفلاطونية»، وشرح له باستفاضة حجم التناقض الذي يفصل اليوم وعودهم عن الواقع، وأفهمه أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وأن معايير الآتي ستكون مختلفة جذريا عن معايير الراهن، الذي يصير لحسن حظنا من الماضي، بفضل تضحيات مجتمعات يبدو جليا أن ثورتها تنبع من رفضها نخبا حاكمة خدعتها وكذبت عليها، فكان من الضروري والحتمي أن تبعدها عن السلطة: الموقع الذي مكنها ويمكنها من إلحاق الأذى بشعوبها.

يظن بعض فلاسفة الأنظمة ومنظريها أنهم سينجحون اليوم وغدا، مثلما نجحوا بالأمس، إن هم دعوا إلى حكم النخبة، بزعم أن ما هو قائم من سلطة لم يكن حكومتها، بل حكم فلاحين وعسكر أجلاف تفعل المجتمعات خيرا إن هي تخلصت منهم، ما دام غيابهم سيفتح الطريق أمام حكم النخب، الذي لم تجربه بعد. لا يدرك هؤلاء أو هم يرفضون أن يدركوا كم تغيرت الدنيا وتبدل الواقع، وكم سيكون تحرر البشر من الآن فصاعدا من صنع أيديهم، بعد أن تبينت لهم استحالة تحررهم بيد غيرهم، نخبا كان هؤلاء أم أحزابا أم عسكرا أم دولا.

خدعت النخب القومية - الاشتراكية الشعب، وخذلته النخب الليبرالية والتقليدية، وكذلك نخب التطرف المذهبي والآيديولوجي. السؤال الآن هو: هل يسمح بخداعه من جديد، بعد تجاربه الطويلة وخيباته المتكررة، بينما سيكون بوسعه أن يتحصن من الآن فصاعدا بمبدأ بوسعه أن يحمي نفسه بمعونته من أية نخب مخادعة، يمتلكه اليوم بثمن غالٍ هو الحياة، اسمه: الحرية؟