أقباط مصر ومسلموها.. ما الحل؟

TT

مخاوف من أن يتحول «الربيع العربي» إلى «شتاء لمسيحيي المنطقة».

العبارة ليست من عندي بل من عنوانين في موضوعين نشرا في الإعلام الغربي عقب أحداث ماسبيرو الأخيرة في القاهرة، في إشارة إلى أن هناك قضية أبعد وأوسع من الأحداث التي شهدتها مصر. فالواقع أن تشبيهات مماثلة سبق استخدامها عقب تصريحات البطريرك الماروني بشارة الراعي الشهر الماضي التي أثارت جدلا واسعا بعد أن عبر عن قلق من تداعيات سقوط النظام السوري محذرا من مخاطر وصول أنظمة أكثر تشددا وتعصبا إلى السلطة «في سوريا أو غيرها»، معتبرا أن المسيحيين في لبنان سيدفعون الثمن، وأن السنة في سوريا سيتحالفون مع سنة لبنان مما سيؤدي إلى زيادة التوتر مع الشيعة.

البطريرك الراعي تحدث علنا عما يدور في أذهان آخرين في المنطقة، وربما كانت تصريحاته ستجد تعاطفا لو أنه لم يبد كمن يربط وضع المسيحيين ومستقبلهم بوضع الأنظمة الاستبدادية، خصوصا في الوقت الذي تواجه فيه الشعوب آلة القمع والقتل التي رفعتها هذه الأنظمة في وجه الاحتجاجات المطالبة بالكرامة والحقوق للجميع، وليس لفئة أو طائفة معينة. هناك قلق واضح، بل مخاوف، في أوساط المسيحيين في المنطقة من تنامي نفوذ الحركات الإسلامية، من إخوان إلى سلفيين إلى الجماعات المقاتلة «سابقا»، بعد الانتفاضات والثورات في عدد من الدول. يضاف إلى ذلك الرعب الذي أثارته العمليات المنسوبة إلى «القاعدة» في العراق والتي تردد بعدها كلام كثير عن أن هناك من يريد تصفية الوجود المسيحي في المنطقة علما بأن هذا الوجود يمتد قرونا وليس شيئا طارئا أو جديدا.

أحداث ماسبيرو جددت المخاوف والجدل حول وضع المسيحيين ومستقبلهم في المنطقة. فأقباط مصر، بغض النظر عما إذا كان عددهم أربعة ملايين (بحسب أقل التقديرات) أو عشرة ملايين (حسب تقديرات أخرى) أو ما بين الرقمين، يشكلون أكبر مجموعة مسيحية في المنطقة، لذلك فإن الطريقة التي ستتم بها معالجة الأزمة في مصر ستكون لها انعكاساتها وتأثيراتها على تفكير المواطنين المسيحيين في كل أرجاء المنطقة. فإذا انبرى الناس لمعالجة حقيقية، فإن ذلك سيعني أن مصر ستخرج أقوى من ثورتها، وستحفظ تماسك نسيجها الاجتماعي وتقوي وحدتها الوطنية، كما سيعني أنها ستضع لبنة تسهم في حل قضية تؤرق المنطقة وتهدد استقرارها، وهي قضية ما يسمي بالأقليات في بلداننا، علما بأن توصيفات أقليات وأكثريات تسهم في تأجيج المشاعر. فأوطاننا فيها تعددية دينية ومذهبية وإثنية يمكن أن تسهم في إثرائها، أو أن تكون سببا في إضعافها.

يحلو للبعض أن يتحدث دائما عن مؤامرة خارجية حتى أصبحت هذه المؤامرة هي المشجب الذي نعلق عليه كل أزماتنا وخيباتنا. المؤامرات موجودة، ولا يمكن لعاقل إنكار وجودها، لكنها لا يمكن أن تنفذ إلينا إلا من خلال الشقوق الموجودة في بنياننا، ولا يمكن أن تنبت وتكبر إلا إذا وفرنا لها التربة الصالحة. كما أن مواجهة المؤامرات حيثما وجدت لا تكون فقط باجترار الحديث عنها، والاعتماد عليها كعذر ومبرر لتفادي المعالجات الجادة والصعبة، بل بسد كل المسامات التي تنفذ منها جراثيم الطائفية إلى الجسد المصري، بل والجسد العربي كله. فمصر تحتاج الآن إلى تحويل الحديث عن دولة المواطنة والدولة المدنية إلى واقع يتمتع فيه كل أبناء الوطن بالحقوق، ولا يشعر طرف بأن مواطنته منقوصة وحقوقه مهدرة، أو أن القانون لا يحميه كما يحمي الآخرين. والمسؤولية في ذلك تقع على جميع مكونات المجتمع والقوى السياسية والمدنية، وإن كان للمجلس العسكري وللتيارات الإسلامية مسؤولية خاصة في هذا الظرف. فالمجلس العسكري هو الذي يقود البلاد في هذا المنعطف الخطير وعليه تقع المسؤولية الأكبر في توجيه دفة السفينة المصرية نحو المسار الديمقراطي الصحيح، ونحو الحوار الذي يضع الأسس لدستور لا تقرره قوى سياسية وفقا لأحجام برلمانية تتغير مع كل انتخابات، بل تضعه هيئة تمثل كل أطياف المجتمع المصري وكبار رجالات القانون فيه، على أن يطرح بعدها في استفتاء يعطيه مشروعية أقوى وحصانة أكبر. وحتى في هذا الوقت المتأخر لا يوجد ما يمنع تداعي كل الأطراف للاتفاق على صيغة الدستور أولا وقبل الانتخابات، لأن هناك مخاوف حقيقية من أن تؤدي الظروف الراهنة المتأزمة إلى انتخابات عليلة، وإلى خلافات ومشاحنات لا تعرقل الدستور فحسب، بل تعوق العملية الديمقراطية وتجعلها عرضة للترنح أمام أي عاصفة قادمة.

أما القوى الإسلامية، وتحديدا الإخوان المسلمين، فإن عليهم مسؤولية في إقناع المتوجسين منهم بأنهم لا يناورون بشعاراتهم الجديدة، ولا يريدون استخدام الديمقراطية كحصان طروادة يسعون عبره إلى حكم استبدادي، خصوصا أن تجربة إخوانهم في السودان لا تبشر، بعد أن ركبوا الديمقراطية وأضعفوها من الداخل قبل أن يطيحوا بها لإقامة حكمهم الاستبدادي. ويحتاج إخوان مصر أيضا إلى إقناع الكثيرين بأنهم جادون في حديثهم عن الدولة المدنية، وبأنهم حريصون على مبدأ المواطنة، وعلى كل مكونات المجتمع المصري.

إن الديمقراطية لا تعني إجراء الانتخابات وحسب، بل تعني ضمان الشفافية، وقبول التداول السلمي للسلطة، وحرية التعبير والتنظيم، وحقوق المواطنة المتساوية للجميع، وسيادة القانون، وكل الحقوق الأساسية الأخرى التي تمثل القيم المطلوب توافرها. ومصر إذا سارت في هذا الاتجاه، فإنها لن تحل أزمة الحكم فقط، بل ستسهم في توفير الظروف لإعلاء قيم التعايش والتسامح، وفي توفير الضمانات والحقوق التي تحمي الجميع، مسلمين ومسيحيين، كما أنها ستسهم في تقديم نموذج لا يطمئن الأقباط فقط، بل كل المسيحيين والمجموعات المذهبية والإثنية التي تشكل أوطاننا.

[email protected]