الفخيون الجدد!

TT

مع أننا ما زلنا في خضم مرحلة «رد الفعل» تجاه الربيع العربي والثورات من جميع الأطراف، والنخب السياسية والثقافية على اختلاف مواقفها مما حصل ؛ فإن هذا لا يعني أن أفكارا ورؤى وتصورات بدأت تتشكل في المشهد العربي في هذه المرحلة الجديدة والمنعطف الخطر في تاريخ المنطقة الحديث.

صحيح أن تاريخ الأفكار ولادة، وموتا يسير ببطء شديدين بحكم أنه يخضع لعوامل ومخاضات كثيرة ليتشكل ويتحول إلى خطاب سائد، إلا أننا يمكن أن نلتقط الإشارات التي تفيد في فهم المسار الذي يمكن أن يؤسس عليه الخطاب السياسي العربي في المرحلة المقبلة.

إحدى تلك الإشارات هو الانتقال من مرحلة «نظرية المؤامرة» إلى ما يمكن تسميته «الفخيون الجدد»، نسبة إلى مفردة «الفخ»، التي بدأت تتكرر في مرحلة بما بعد الثورة ليس وصفا للتغيير الذي حدث؛ بل لردود الفعل على مرحلة ما بعد الثورة وحالة «اللااستقرار» التي تخيم على أجوائها، حيث يتحدث أنصار «نظرية المؤامرة» القدامى عن فخاخ تنصب للدول العربية المستقرة لتوريطها في مرحلة ما بعد الثورة أو مع دول مؤثرة في المشهد الإقليمي، وتحديدا إيران.

تراجعت «نظرية المؤامرة» فيما يخص الثورة، فأصبح زعماء «نظرية المؤامرة» القدامى - وهم عادة من القوميين وبقايا اليسار وجزء كبير من أنصار الإسلام السياسي - يسخرون بشدة ممن يشير بأصابع الاتهام إلى التكوينات الجديدة من شباب التغيير، وأن أدوارهم كانت محفزة على سقوط الأنظمة، بينما كانت الأنظمة قد آلت للسقوط بالفعل، إما بسبب انشقاقات داخلية سرية أخذت تعمل ببطء أو بسبب موات تلك الأنظمة واختناقها بسبب ما آلت إليه الأوضاع الداخلية لديها.

أنصار هذا النوع من التحليل هم نقاد «نظرية المؤامرة» بالأمس، وعادة هم من النخب المحافظة سياسيا والمخاصمة لطريقة تفكير أصحاب «نظرية المؤامرة» الذين عادة ما يستبعدون الأسباب الموضوعية لحساب قصص طويلة متخيلة تختلف درجة حبكتها من وقت لآخر تدخلات السياق الدولي الذي يكون له دور بارز عادة في تدعيم حبكة «نظرية المؤامرة» لتصبح سيناريو مقبولا لدى المشاهد السياسي وتبتعد كثيرا كما هو الحال في زمن الثورة بسبب انشغالها بأزماتها الذاتية والحقيقية، وعلى رأسها وضعية الاقتصاد العالمي في المرحلة المقبلة.

الآن نشهد ولادة جديدة لـ«الفخيون الجدد» الذين طوروا آلياتهم القديمة في تدعيم فكرة «نظرية المؤامرة»، والتي لا مكان لها في أسئلة الثورة ليواجهوا بها الواقع ما بعد الثورة، وتحديدا أمام الدول التي لم تشهد مخاض الثورة في محاولة لابتزازها في الموقف من فصيل أو آخر داخل الثورات أو في الموقف من النظام السوري وجرائمه التي تصل إلى مفهوم حرب الإبادة في محاولة لإعطائه الفرصة، وخوفا من اهتزاز النفوذ الإيراني في المنطقة على حساب تصاعد القوة التركية التي ما زال ينظر إليها بارتياب من قبل «الفخيين الجدد».

صرعات «الفخيون الجدد» تعددت في مرحلة ما بعد الثورة، ويمكن أخذ عينة عشوائية لا يقصد منها الوقوف عند كاتب عريق كالأستاذ فهمي هويدي بقدر الإشارة إلى تناقضات هذا النوع من التفكير، كما أن ما كتبه الأستاذ فهمي هويدي غطى ثلاثة مواقف هي المبادرة الخليجية والموقف من سوريا، وأخيرا ملف محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، وهي ثلاثة مواقف كانت الرؤية السعودية فيها واضحة ومحددة بشكل يتجاوز ربما تردد باقي الدول التي لديها نفس الموقف من الملفات الثلاثة، كما أن نظرية «الفخ» قد طالت هذه الملفات الثلاثة بطريقة تقودنا إلى تجاوز الموقف الشخصي أو وجهة النظر السياسية التي لها احترامها إلى محاولة لفهم الظاهرة الجديدة.

نشر الأستاذ فهمي هويدي عددا من المقالات في صحف عدة يمكن الرجوع إليها في مدونته، كان منها مقاله «حفلة القتل في اليمن» ينتقد فيها المبادرة الخليجية وأنها سهلت للرئيس اليمني ولأفراد أسرته؛ قتل اليمنيين بدم بارد لأنها أطالت في شرعيته، منتقدا بقاء الرئيس صالح في السعودية، ثم السماح له بالعودة دون إجباره على التوقيع!

المبادرة الخليجية إذن لا تعدو أن تكون فخا سياسيا لبقاء صالح، والغريب أن أصحاب هذا الرأي، ومنهم الأستاذ فهمي، نسوا أن السعودية ليست دولة نظام بعثي أو دولة ثورية يمكن أن تجبر أحدا بالقوة على تبني موقفها السياسي، كما أن أصحاب هذه النظرية حين يتجاهلون الموقف السعودي الصارم تجاه قتل المدنيين في أي مكان يتحدثون بلغة مواربة ومميعة في الحالة السورية، أو في التأييد الصارخ من قبل إيران التي يصرح قادتها بالذهاب للحرب في حال استهدف النظام السوري، حيث يقول المحلل السياسي المقرب من دوائر القرار في إيران بالنص: «إيران ستذهب إلى أبعد ما يمكن تصوره.. إذا حصل تدخل خارجي (سواء كان عربيا أو أميركيا أو أطلسيا) ضد دمشق، فإن إيران ستدافع عن النظام السوري، وستذهب إلى الحرب».

وفي الملف السوري يتكرر أسلوب «الفخ» على طريقة الأستاذ فهمي هويدي وأنصاره المؤيدين لهذا النمط من التحليل السياسي، حيث يقرر في مقال عن المعضلة السورية الذي أفاض فيه في شرح خصوصية سوريا وأهميتها في السياق العربي، لكنه تحدث بلغة تبدو ناعمة حول جرائم الحرب تجاه الشعب السوري الأعزل، ذلك أن الوضع في سوريا رغم خطأ النظام هو فخ كبير ينصب للعرب، الأستاذ هويدي يصف تلك الجرائم بأنها «استخدام القمع وسيلة لإسكات صوت الغاضبين!»، في حين أنه في الحالة اليمنية وصف علاج الرئيس اليمني في الرياض إهانة لليمنيين وإهدار لكرامتهم لا يقل فداحة عما يحدث في البحرين من وجهة نظره!

كارثة هذا النمط «الفخي» من التفكير يمكن تلخيصه بكلمة قالها أيضا الأستاذ فهمي هويدي في نفس المقال في حديثه عن احتمالية سقوط النظام السوري: «إذا كان استمرار النظام مشكلة، فإن سقوطه مشكلة أيضا، ذلك أننا لا نتمنى ألا يقترن السقوط في حرب أهلية بين العلويين القابضين على السلطة وبين الأغلبية السنية التي ضاقت ذرعا بذلك الوقع وعانت منه، وليس ذلك هو أسوأ الاحتمالات، لأن من شأن سقوط نظام دمشق أن يوجه ضربة موجعة إلى حزب الله في لبنان، وأن يقطع الجسور مع إيران التي اختارت أن تصطف إلى جانب النظام وتدعمه بجميع السبل. وإذا ما تم إضعاف حزب الله وقطع العلاقات مع طهران، فإن الطريق يغدو مفتوحا أمام إسرائيل لكي توجه ضربتها العسكرية إلى المشروع النووي الإيراني، وهي الخطوة التي طالما ألحت عليها وما برحت تتحين الفرصة للإقدام عليها. وإذا ما حدث ذلك فيعلم الله وحده ما الذي سيحدث بعد ذلك!».

أعتقد أن مجرد اقتباس مثل هذا التحليل يغني عن تتبع تفاصيله التي ليست هي من هدف هذا المقال، كما هو الحال الموقف من كاتبه بقدر أنه يضع الضوء على هذا النوع من طريقة التحليل باستخدام نظرية «الفخ»، كما أنه يشير إلى مكامن الخلل في النظرية ذاتها التي بنيت في الأساس على تحيز تجاه الدول غير الثورية بالمفهوم القومي للموضوع، كما أنها استندت إلى تراث طويل في النظر إلى «نظرية المؤامرة» التي عادة ما يتم استخدامها في تحليل المواقف الغربية، وتحديدا الولايات المتحدة، وحين كفت أميركا بسبب التفاتاتها الداخلية الحادة عن الدخول في تفاصيل مرحلة ما بعد الثورات لم يكن من بد في الانتقال من «نظرية المؤامرة» التي تدين الغرب إلى نظرية الفخ التي تحاول إدانة كل من يختلف مع التمدد الإيراني السياسي في المنطقة الذي كشف عن حالة من «التشيع» السياسي يمكن أن تعتنقها تيارات كثيرة ما دام أن شعار العداء لإسرائيل والغرب هو الدافع!

[email protected]