إيران تتصدى للثورات العربية وللولايات المتحدة معا!

TT

ما لبثت حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن غيرت موقفها من الاتهام الأميركي لها بتدبير مؤامرة لاغتيال السفير السعودي بواشنطن. فبعد أن شتم مسؤولون مختلفون الولايات المتحدة، واعتبروا التهمة مضحكة تارة ومؤامرة تارة أخرى - إذا بوزير الخارجية الإيراني يصرح أن طهران تأخذ هذه الاتهامات على محمل الجد، وهي مستعدة للتواصل مع الحكومة الأميركية بشأنها! وهذا لا يعني أن الجمهورية الإسلامية اعترفت بالتورط في محاولة الاغتيال، بل يعني أمرين اثنين آخرين: أنهم يريدون الاطلاع على أدلة الاتهام للرجل الإيراني - الأميركي، التي نمي إليهم من مصادر أممية وعراقية أنها جدية وتورط عدة مسؤولين كبار في الحرس الثوري وفي فيلق القدس. والأمر الثاني أن الأميركيين ذاهبون بالملف إلى مجلس الأمن، وإيران لا تريد إن استطاعت - أن يصبح لديها أو عليها بمجلس الأمن ملفان: الملف النووي، وملف الإرهاب! إنما لماذا قامت إيران أو قام فيلق القدس بالتخطيط لهذا العمل في هذا الظرف بالذات، وهو ظرف غير ملائم على الإطلاق لإيران ولفيلق القدس ولحزب الله وللجهاد الإسلامي.. إلخ.

إن الواقع أنها ليست المرة الأولى بعد قيام الثورات العربية، التي يتدخل فيها الإيرانيون بقصد الضم أو تحويل الاتجاه. فمنذ قامت الانتفاضة بتونس قال خامنئي إنها ثورة لإنشاء حكومة إسلامية مثل إيران. وعندما قال خامنئي ذلك، ما كان أي إسلامي تونسي قد شارك في الانتفاضة. ولذلك ذهب بعض المراقبين إلى أن التبني الإيراني للثورتين بتونس ومصر، إنما كان المراد منه الإساءة إلى الثورتين، والتشكيك بهما، وبخاصة أن كثرة كاثرة من الدول العربية والأجنبية ما كانت تطيق حركات الإسلام السياسي؛ وإذا كانت إيران تقول إن هذه الثورات هي من صناعتها، فهذا أدعى لعدم تأييدها من جانب الأوروبيين والأميركيين على الأقل! وبالفعل فقد تأخرت عدة جهات في إظهار الدعم بحجة أنها تريد التأكد من «مدنية» الانتفاضات أو علمانيتها! وقد استمرت إيران على هذه السياسة تجاه الثورات العربية مقدمة حالة البحرين، إلى أن انكشفت عند الانتفاضة السورية، حينما أعلنت معارضتها للثوار واتهامهم بالتآمر، وإرسال الحرس الثوري جوا ومن طريق العراق معدات وعناصر وأموالا لمساعدة الرئيس السوري في قمع الثائرين. ثم إن إيران واجهت سائر الثائرين ومن دون مواربة حين أيدت عملية إيلات، وإحراق السفارة الإسرائيلية بالقاهرة. فإذا لم يكن إخماد الثورة ممكنا، فلا أقل من تحويل وجهتها؛ بنشر الانقسام في الصفوف حول الأولويات. فقد قامت سياسات الجمهورية الإسلامية خلال السنوات العشر الماضية؛ وفي المشرق العربي بالذات، على دعم الحركات الإسلامية السياسية المسلحة وغير المسلحة بحجة مواجهة العدو الإسرائيلي، وفي الطريق لا بأس بمواجهة الأنظمة أيضا، وبخاصة تلك التي لا تمارس «ممانعة» مثل الممانعة المعروفة عن النظام السوري المقاوم! وقد تم ذلك في الحقبة التي تشاركت فيها الجمهورية الإسلامية مع الأميركيين على أفغانستان والعراق، وتقاسم المصالح والنفوذ فيهما! إن الثورات الشعبية العربية تنهي هذه التجارة الإيرانية لتقسيم الجمهور، ونشر مناطق وبؤر النفوذ. فقد نزل الجمهور العربي إلى الشارع لاستعادة إدارة شأنه العام، وما عاد يريد أن ينوب عنه في سائر المجالات لا النظام الاستبدادي الذي يحكمه، ولا الحركات الجهادية المتحالفة مع إيران. وبالفعل فإنه حتى في فلسطين حاولت حماس وتحاول النجاة من قبضة إيران وسوريا، اللتين كانتا قد دعمتاها في إقامة الدويلة بغزة بحجة تحدي إسرائيل، بينما ما كان الحماسيون يتحدون في الحقيقة غير فلسطينيي الضفة الغربية والقدس!

وهكذا فإن الثورات العربية أنزلت أضرارا فادحة بحلفاء إيران بالمنطقة دولا وتنظيمات. ولا شك أن الحاكمين بإيران انصرفوا لتقدير الموقف، ووضع الخطط لمواجهة تلك الثورات. وباستثناء الثورة السورية التي واجهتها إيران علنا اضطرارا؛ فإن بقية التحركات ووجهت بالحيلة والعرقلة ومحاولات التضليل والتحويل.

بيد أن العملية بواشنطن، كان المقصود بها أن تكون كاسحة، وذلك لعدة جهات. فالذي كان ينبغي أن يظهر أن العملية قامت بها «القاعدة» انتقاما لمقتل زعيمها أسامة بن لادن، ومقتل أنور العولقي. وتكون النتيجة حسب هذا التقدير أمرين اثنين: فشل الحملة الانتخابية للرئيس أوباما في العام المقبل، وعودة الصراع الأميركي - الأصولي السني! ولنتذكر خطف الرهائن بالسفارة الأميركية بطهران عام 1980، وكيف أدى ذلك إلى سقوط كارتر، وإطلاق الرهائن فور فوز رونالد ريغان. ومع إدارة ريغان أجرت الجمهورية الإسلامية صفقة «إيران - كونترا» عام 1985 - 1986 التي كانت إسرائيل طرفا فيها. وقد تبينت سعادة الإيرانيين الكاملة مع الإدارات الجمهورية، ما جرى من تعاون في إدارة بوش الابن بين إيران وأميركا، والتقاسم في أفغانستان والعراق، وأنحاء أخرى من الشرق الأوسط والمشرق العربي والإسلامي. وقد غادرت إدارة أوباما ساحة المعركة العلنية، ولجأت منذ عام 2009 للدبلوماسية والعمليات السرية. وقد قصم ذلك ظهر إيران، لأنه ما عاد هناك خصم يمكن مواجهته، وتبرير البؤر الانقسامية والعمليات الأمنية والعسكرية تحت راية مواجهته. وفي الوقت نفسه زاد الضغط على إيران في الملف النووي. ولذا فإن عملية (وإن باسم «القاعدة») في قلب الولايات المتحدة، كفيلة بتفشيل إدارة أوباما وإن تكن قد قتلت بن لادن والعولقي، ونشر الفوضى لعام أو أكثر وباسم مكافحة الإرهاب في الداخل الأميركي. والجانب الآخر من العملية لا يقل خطورة. ذلك أن تمكن «القاعدة» من القيام بعملية من هذا النوع في واشنطن، يعني أن الإرهاب الأصولي السني لا يزال قويا ويشكل خطرا على أمن العالم. ولذلك لا بد من إحياء الحرب العالمية على الإرهاب، التي لا يقوم بها بكفاءة غير الجمهوريين، ولا بد من الحذر والتشكك تجاه الثورات العربية التي بدأ الإسلاميون يتقوون من خلالها!

هكذا ما عاد من الممكن التشكك في «صدقية» الإدارة الأميركية، بحجة أن الإيراني المقبوض عليه غير محترف، وأن الهدف ليس كبيرا بما فيه الكفاية. فالمقصود الإضرار به ما كان الجمهور الأميركي، ولا حتى المسؤولين العرب الكبار؛ بل الضرر الذي كان سيقع يتناول أوباما العاجز عن ضمان الأمن الأميركي، والجمهور السني الذي تنتشر في أوساطه الأصولية والإرهاب!

لقد استنزف الإيرانيون - وباسم الإسلام وفلسطين - وعلى مدى قرابة العقد من الزمان مجتمعاتنا وإنساننا في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والبحرين واليمن، ولا أدري أين وأين أيضا. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بفشل المخطط بواشنطن، أو إعراض حماس عنهم، أو سقوط النظام السوري. فقد نشروا وعيا خاصا مستنفرا في أوساط العامة الشيعية بالمنطقة العربية، ولن يستطيع الجمهور الشيعي العودة بهدوء إلى حالته الطبيعية في المجتمعات والدول، بعد أن تصاعدت لدى فئاته مشاعر الغضب والغلبة في الوقت نفسه، بل والإحساس بأن الثورات العربية ضده، كما هي ضد الأقليات المسيحية التي يزعم النظام السوري اليوم، والحزب، أنهما يحميانها منا في سوريا ولبنان!

إن الأمل أن يتمكن الشعب السوري من التخلص من نظامه، وأن يتمكن جمهورنا العربي من استعادة إخواننا الشيعة في العراق ولبنان والخليج من براثن فيلق القدس والجنرال سليماني!