كان يفترض أن يبقى حيا

TT

أحب الألوان، فكان يرتديها بالأثواب، ويعتمرها بالقبعات، ويرصعها بالنياشين. قبعات عن مراتب لم يصلها، وثياب لمقاعد لم يبلغها، وأوسمة على بطولات تخيلها الخياطون. المعركة الوحيدة التي خاضها كانت معركته الأخيرة: لا قبعات بألف لون، ولا ثوب أفريقيا يتعثر فيه، ولا أوسمة تتساقط يتيمة في الطريق لا تعرف لماذا علقت ولا كيف تناثرت.

أحب النساء فجعلهن يرافقنه في السفر مع خيمته: اللون الأسمر للحراسة، اللون الأشقر للتمريض، لا مكان للون الحنطي. يجب أن تكون الألوان فاقعة. وأحب الحروب، من لبنان إلى تشاد إلى ساحل العاج إلى نيكاراغوا إلى الفلبين. وأحب أبو نضال فاستضافه سنوات طويلة. وأحب عائلته وابنته عائشة التي تجرأ أحدهم وكتب لها رسالة مفتوحة، وبعدها ذهب إلى الإمارات يعيش بقية عمره مقطوع الأصابع التي كتب بها إلى سيادة الفريق، عائشة بنت معمر.

وأحب الصحف والتلفزيونات فأغلقها جميعا، وبقي هو الصحافي الوحيد، والنجم التلفزيوني الوحيد. وأحب ليبيا فاختصرها في نفسه. وأحب ثروتها فضمها إلى حسابه. وأحب القضية الفلسطينية فطرد أبو عمار ووضع كتابا ضد قيام الدولة بل دمجها في إسراطين، الاسم الغليط والمعنى الغليظ.

أحب السلطة فحولها إلى حبة هلوسة ابتلعها. ولذلك عندما بدأت ثورة 17 فبراير (شباط) قال إن الثوار مجموعة شباب وُزعت عليهم أقراص مخدرة. لم تكن رؤيته إلى الحكم والقانون والدولة والعلاقات الرسمية سوى علاقات رجل تحت تأثير ما. وصل إلى أول قمة عربية يحضرها ومعه مسدس. كان يحول كل قمة إلى تهريج لا تغلب عليه خفة الظل. وكان يثير من حوله الغبار في كل مكان يذهب إليه، ولا شيء سوى الغبار.

كان يفترض أن يبقى حيا وأن يحاكم، لكي يصغي إلى أنين الأرامل والثكالى والأبناء وأولئك الذين لم يعرفوا آباءهم. وكان يجب أن يصغي في سجنه إلى أخبار الذين عذبهم ونفاهم وصادر أموالهم وحياتهم وحرياتهم. كان يجب أن يسمع آراء الليبيين الحقيقية في حكمه وفي نظامه وفي فكره، وليس أخبار الاستوديوهات التلفزيونية. لم يكن من العدل أن يعفى من سماع الشعب الذي عامله كعبد ذليل وأسير جريح، ووقف على صدره 40 عاما يخطب عن حكم الشعب.

كان يقال إنه سوف ينفى إلى زيمبابوي، حيث يكون جارا لمانغستو ميريام، الذي قتل مليون إثيوبي «ليصلح» شأن البلاد. مليون كابوس يدق صدر مانغستو كل ليلة. ديكتاتوريات لا تقدم لشعوبها سوى الموت. وقتلة يقدمون أبناءهم أولا، ثم ينادون على موتهم الشخصي. كان من الأفضل أن يبقى حيا، لكي يعدد كم موتا زرع في الأرض.